هل انتهى صراع التوريث في تونس ؟
عادل بن عبد الله
مثّل الانسحاب المفاجئ للمدير التنفيذي لنداء تونس -وابن رئيس الجمهورية- مفاجأة كبيرة لأغلب التونسيين الذين كانوا يرون في ترشحه للانتخابات التشريعية الجزئية بألمانيا لحظة من لحظات المسار التوريثي الذي بدأ بالهيمنة على نداء تونس ولن ينتهيَ قبل بلوغ قصر قرطاج. وقد رآى المناوئون للتوافق -ولمرشح منظومة الحكم- في هذا الانسحاب انتصارا رمزيا لهم وذهبوا في تفسيره مذاهب شتى ليس هذا موضع تفصيلها.
مهما كانت الأسباب الحقيقية لانسحاب السيد حافظ قائد السبسي -وترشيح نداء تونس رسميا شخصية أخرى هي الطبيب الجامعي المقيم في ألمانيا فيصل حاج الطيب- فإنّ صلة القرابة بينه وبين رئيس الدولة كادت تحصر “خطر” التوريث في الوريث “البيولوجي” أو العائلي دون سائر الورثة المحتملين “جهويا” أو “إيديولوجيا”. وقد بدا حافظ قائد السبسي شبيها بالشجرة التي يراد لها أن تحجب الغالبة أكثر مما تسعى هي لفعل ذلك من تلقاء نفسها. فرغم مشروعية التركيز المكثّف عليه بحكم أدائه المشبوه في قيادة نداء تونس، فإننا لا نستطيع أن نجزم بأنّ ذلك التركيز سببه الأوحد هو المخاوف من التوريث “البيولوجي” بقدر ما هو راجع إلى أسباب سياسية ترتبط أساسا باستراتيجيات التوريث “الجهوي” و”الإيديولوجي”.
لنبدأ من الأول ولنحاول طرح الأسئلة التي يتفق أعداء حافظ وأنصاره على حد سواء في تهميشها أو كبتها: هل انتهت معركة التوريث وإعادة التوازن للمنظومة النيو-تجمعية بخروج حافظ قايد السبسي من المنافسة على مقعد ألمانيا؟ هل يمكن لأي شخص لا ينتمي للإقطاعيتين البلدية والساحلية أن يطمح في منصب الرئاسة أو حتى رئاسة الوزراء بعد وصول الباجي إلى قرطاج؟ هل إنّ مشكلة التونسيين مع حافظ قائد السبسي هي مشكلة مع “آل السبسي” أم هي مشكلة مع بنية سلطوية ومنطق حكم وتوزيع للثروات؟ لماذا نتصور أن خروج حافظ من المنافسة في ألمانيا يعني أنه قد خرج من استراتيجيات التوريث والتنافس بين جناحي النظام من اٌلإقطاعيتين البلدية والساحلية؟ هل يوجد في أداء نداء تونس -وأداء مؤسسة الرئاسة- ما يوحي باستعداد المنظومة الحاكمة للتداول السلمي على السلطة أو حتى لشراكة حقيقية مع غيرها فيها؟
إنّ شخصنة قضية التوريث وحصرها في شخص ابن الرئيس هو طرح مخاتل ومضلل. ولا شك أن ابن الرئيس يمثّل “الضحية المثالية” التي قد يتوحّد ضدها عدة أطراف لا تنتمي بالضرورة لمراكز القوى الساعية إلى الاستيلاء على منصب الرئاسة، وهي أطراف لا تحمل المشروع السياسي ذاته ولا تدافع عن “المصالح العليا” عينها. لقد اكتسب المدير التنفيذي للنداء منذ وصول أبيه إلى قصر قرطاج عدّة خصوم سياسيين داخل حزبه (خاصة القيادات المنشقة وأغلبها يساري المنحدر ويتشكل رأسمالها الرمزي أساسا من معاداة حركة النهضة والتخويف منها مفردةً أو التخويف منها ومن النداء مجتمعين لما يمثلانه من خطر على التوازن السياسي في البلاد) كما اكتسب خصوما خارج حزبه (خاصة من اليسار الثقافي في الجبهة الشعبية الذي لم ينس للباجي الأب ما كافأه به من جزاء سنّمار رغم أنّ هذا اليسار كان هو المبادر إلى شرعنة وجوده -ووجود التجمعيين- داخل “العائلة الديمقراطية”، ورغم أنه كان أحد الداعمين الأساسيين له في الانتخابات الرئاسية لسنة 2014 وذلك باعتماد سياسة “قطع الطريق” على منافسه الرئيس المتخلي محمد منصف المرزوقي).
لذلك كله يبدو أنّ هناك نوعا من الإجماع بين خصوم حافظ على إزاحته من سباق الوراثة أو على الأقل إضعافه -وبالتالي إضعاف خيار التوافق- وتقليص حظوظه في وراثة أبيه إلى درجة كبيرة. ورغم استمرار هيمنة ابن الرئيس على نداء تونس فإنه يواجه خصوما أقوياء قد يحولون بينه وبين ما تشتهي نفسه أو نفس أبيه ومِن ورائهما جناحٌ معين من الأجنحة المتصارعة على السلطة. ويبدو أنّ التركيز المكثف على ما يمثله من خطر -حتى من داخل بعض المنابر الإعلامية المحسوبة على “المنظومة”- هو جزء من استراتيجية مزدوجة ترمي إلى تحقيق هدفين متلازمين: من جهة أولى ضرب حظوظ حافظ في وراثة أبيه وإضعاف خيار التوافق الذي راهنت فيه النهضة على المدير التنفيذي للنداء، ومن جهة ثانية تضليل المواطنين وإبعاد أنظارهم عن الخطر المتمثل في البنية الجهوية للسلطة، تلك البنية التي ضحّت بالرئيس المخلوع وقد تُضحي بحافظ أو بغيره، لكنها لن تسمح بخروج التنافس عن دائرة النواة الصلبة للمنظومة المتحكمة في دواليب السلطة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
ختاما، رغم كل سياسات التضليل و”التطبيل” فإن المدير التنفيذي لنداء تونس قد لا يكون هو المرشح الأضعف في سباق “التوريث” ولكنه بالتأكيد لن يكون هو المرشح الأوفر حظا للوصول إلى قصر قرطاج. إذ بصرف النظر عن حساسية التونسيين تجاه مبدأ التوريث ذاته ورفضهم المطلق له، فإن المحدودية السياسية والضعف التواصلي -بالإضافة إلى توازنات داخلية تهمّ جناحي السلطة- تجعل من وصوله إلى رئاسة الجمهورية أمرا مستبعدا. بل إن سياسة التوافق ذاتها -رغم أنها نقطة تفاوض جيدة مع القوى الدولية والإقليمية- قد لا تحتاج إلى شخص قد يحرّك المواطنين ضد المنظومة كلها رفضا للتوريث. وهو ما يعني أنّ المنظومة الحاكمة تستطيع الاستمرار بعد الرئيس الحالي، كما تستطيع ضمان مصالحها المادية والرمزية من خلال تقديم شخصيات سياسية أخرى قادرة على تحقق غايتين رئيسيتين: بقاء السلطة داخل البنية السلطوية الجهوية ذاتها، وإعطاء الوهم بأن البلاد قد تجنبت سيناريو “التوريث”.
ولا شك في أنّ هذه الفرضية هي الأكثر عقلانية وبراغماتية. فهي أقرب إلى روح الديمقراطية “الصورية” المهيمنة على البلاد، وهي كذلك أقرب إلى المزاج الشعبي العام، ذلك المزاج الذي مازال يرفض محقّا التوريث العائلي ولكنه لم يستطع بعد أن يدير معركته مع السلطة باعتبارها معركة ضد بنية تسلطية جهوية ومتخلفة وتابعة -توظّف اليسار الوظيفي والإسلام الوظيفي على حد سواء رغم كل ادعاءاتهما الطهورية والثورية-، وليست معركة ضد جناح معين من أجنحة تلك السلطة أو ضد شخصية من شخصياتها مهما كانت درجة نفوذها أو رمزيتها.
عربي21