من طرائف حياتي الدينية ! (2)
بشير العبيدي
#بسمة_اليوم
لقد عشتُ مواقف إنسانيّة غاية في الطرافة والغرابة، بيد أنّني أذكر مُلحاً منها غلبت ما دونها لشدّة اتصالها بنمط التفكير! وهذه دُفعة جديدة منها على الحساب :
حين طُلب منّي رفع الأذان في مسجدٍ بتونس !
كنتُ شاباً يافعاً، أعتني بتثقيف نفسي دون إغفال مظهري، وكانت أشدّ العناية بشعري لعلمي أن متعته لن تدوم، فجلبتُ بعض الانتباه في مسجد ضاحية “مقرين” بتونس العاصمة، حيث كنتُ أعملُ في الصيف في متجر، وكان الإمام يتبضّع من عندي. وتخلّف المؤذّن يوما، فقال لي الإمام : هل تعرف تؤذّن؟ قلت له : لا أعرف إلا ذاك ! فقال : هلمّ. فوقفتُ أمام المصدح، ورفعت عقيرتي مؤذنا، وحسّنت صوتي الشجيّ للسّامعين، وما كدتُ أنهي حتّى تناهى إلى سمعي الشّكرُ من الزوايا الأربعة للمسجد، فهيّج ذلك أشواقي لمزيد الثّناء، وتمنيتُ لو أن الإمام طلب منّي أن أعيد، وصلّينا المغرب وسنّته، وطلب الإمام أن أعود لصلاة العشاء، فرجعت قبل العشاء بنصف ساعة طمعا في أن أعيد الأذان، لكن المؤذّن لم يتخلّف. فَلَمّا حانت الصّلاة، تحرّك المؤذّن وكان شيخاً هرماً، فرجاه النّاس الذين سمعوني في المغرب أن يتركني أرفع الأذان، وقيل له : نشجّع الشّباب الصّغير ! ففعل وكأنّه كارهٌ، فرفعتُ الأذان بأحسن مما فعلتُ في المغرب، وانهال عليّ النّاس بالثّناء وقد غصّ بهم المسجد، خلا المؤذّن، ظلّ ساكتا ولم يلتفت إليّ. وبعد الصّلاة، دار حولي ناس يتعرّفون عليّ ومن بينهم كهل أبدى بي اهتماماً زائداً، وسلب منّي – ابن الكلب – معلومات ما كان علي أن أخبره بها ! لقد كان مخبراً من برابيز نظام المخلوع بن علي! قال لي ذلك من له به علم. فخفت أن أعود إلى ذلك المسجد ثانية، وظلّ المخبر يحفر عن جذوري حتّى عرف أصلي وفصلي وتيقّن من علاقاتي، ونصب لي كمينا للقبض عليّ ليلة زواج شقيقي، وانفلتُ منه بقدر الله العجيب ! إذ أخبر مخبر آخر صهر أخي بالأمر قبل وقوعه، لعلاقة حميمة بينهما! فهرّبوني من العرس في سيّارة الخبّاز ! وما رفعتُ بعدها أذان في مسجد تونسيّ قطّ !
حين طُلب منّي رفع الأذان في مسجدٍ بباريس !
دارت الأيام، وانتقلت إلى منزل في العاصمة الفرنسيّة سنة ستّ وعشرين وأربعمائة وألف هجرية، فوجدتُ بعض المسلمين في تلك النّاحية قد بدأوا يجمعون المال لبناء مسجد، وقد اجتمعوا في محلّ مؤقت معمول من القصدير والخشب، اتخذوه للصلوات الخمس. فدخلتُ في جمعهم بنيّة الأجر، لكنّهم حين سمعوا كلامي أصابهم الخوف من أن “أسيطر” عليهم، فحروب السيطرة لا يكاد يخلو منها بيت من بيوت الله في هذه البلاد. فقال لي أحدهم يوماً وقد تأخر المؤذّن : ألا تؤذّن لنا ؟ قلت : بلى ! فرفعت أذان المغرب وأنا أتذكّر حالي أيام تونس، وكان في المسجد عدد من المسنّين فاستحسنوا الأذان كثيرا ولما قضيت الصلاة رجوا إمام المسجد أن أكون مؤذّنهم، فنظر إليّ الرّجل نظرةً كأنّني طلبتُ منه يد أمّه لزواج المتعة ! ثم انفجر قائلا بفرنسيّة ركيكة : نعم ! سنعطي هذا المسجد لمن هبّ ودبّ هذا إمام وهذا مؤذن ونحن هنا مجرّد سواري للبناية ! هناك جمعية تسيّر وتقرّر ! فوقفت أمام الإمام وقلت له بالفصيح المليح : يا سيّدي معاذ الله ! أقسم بالله الذي رفع السماء بلا عمد لن أرفع الأذان بعد الْيَوْم ! ولن أعمل ههنا شيئا اطمئنّ !
وعلى تباعد الزمن بين الحادثتين، وجدتُ رابطا يربطهما : فلئن كان المخبر في تونس من بين المصلين، فقد تبين أن الإمام عينه هو المخبر في باريس، يعمل لحساب نظام عربي مغاربي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
– يتبع –
✍? #بشير_العبيدي | صفر 1439 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أَمَلاً |