حلاّق السّجن
عبد اللطيف علوي
مرّ على إيداعنا بسجن الكاف ثلاثة وأربعون يوما… كنت أحرص على أن أحسبها يوما بيوم، لكيلا أتحوّل إلى حجر…
بدأت أتعوّد على نوع من الهدوء القاتل، ذلك الهدوء الّذي يشبه حالة من التّخدير الطّويل، يفقد معه الإنسان إنسانيّته وتضمر أعضاؤه بالتّدريج وترتخي، ويتحوّل إلى مثل تلك الكائنات الرّخوة، الّتي تصنّع في المختبرات السّرّية لأبحاث الخيال العلميّ، شبحا مسيخا من لحم ودم، بلا إرادة وبلا غريزة أو خيال…
كانت الأيّام الأولى شبيهة بحالة الفطام الوحشيّ الدّمويّ، فطام تقتلع فيه الأمعاء والرّوح والذّاكرة. أنزلونا من “الباڨة” (سيارة الشرطة) وأوقفونا في صفّ طويل لساعات، وراح الأعوان يمرّون علينا، ويتداولون على صفعنا وركلنا والبصاق على وجوهنا ولكزنا بالهراوات ودفعنا حتّى نسقط على وجوهنا وسبّ فروج أمّهاتنا العاهرات جميعا في نظر أعوان الدّولة…
للسّجن، كما للحجّ، شعائره وأركانه، ومن أركانه الحلقُ… دفعوا بنا إلى حلاّق غشيم، من المساجين، في حفرة ضيّقة، بيده مقصّ ضخم أشبه ما يكون بالجلم، أو لعلّه جلم ظننته مقصّا، وموسى طويلة يشحذها من حين لآخر على حجر صقيل… راح يجوس في رأسي ككلب أعور، وبين قصفة وقصفة يعضّ الجلد ويدميه، أتأوه فيصفعني على قفاي وينهرني لكي أخرس… طلب سجائر، فأعطيته، ورأيته يتلطّف بي قليلا… كلّ على قدر سجائره يعرف قدره عند الحلاّق. ثمّ مرّ على وجهي بموساه فتركه كعصف مأكول. نظرت إلى من سبقني إلى الحلق، فأدركت أنّه فصل آخر من فصول التّنكيل والتّعذيب.
لا وقت لتسأل عن أيّ شيء، ولا وقت لتفهم… تفاجئك الأحداث سريعة متتالية كطلقات مدفع رشّاش، وعليك أن تستوعب قانون السّجن كلّه في لحظات، وتذعن لنظامه بالكامل، لكيلا تسقط بين الأرجل وتدهسك الأحذية، ولكي تعيش إلى صباح اليوم الموالي…
رواية #الثقب_الأسود ص 77
#عبد_اللطيف_علوي