الإثنين 2 يونيو 2025

قراءة متشائلة في كتاب الصّعود إلى المنحدر

حسين السنوسي

1. هناك على الأقلّ ثلاثة مستويات -أو بالأحرى ثلاث دوائر- للقراءة في كتاب “الصّعود إلى المنحدر” للصّديق عبد اللّه بن صالح (الصّادر عن دار الثّقافيّة للطّباعة والنّشر). الدّائرة الأولى هي السّيرة الذّاتيّة للكاتب. الدّائرة الثّانية تتعلّق بالحركة القوميّة العربيّة التّي انتمى إليها الكاتب ولا يزال. أمّا الدّائرة الثّالثة فموضوعها الأمّة التّي لولاها لما كان لوجود الحركة ولا لنضالات الكاتب ولا لكتابه الذّي بين أيدينا معنى يذكر.
2. الكاتب مناضل سياسيّ ونقابيّ اختار أن يكون حرّا وإيجابيّا في فترات كان فيها هذا الخيار أقلّيّا ومحفوفا بالمخاطر. مارس العمل السّياسي -السّري بالضّرورة- عندما كان في العشرين من عمره فقاده ذلك -كما كان لابدّ أن يقوده- إلى أقبية وزارة الدّاخليّة.
3. تقرأ وصف الكاتب -الدّقيق- لهذه الأقبية فتجزم أنّ هذا أقذر مكان على وجه البسيطة. “كهف” سقفه أسود وقاعه أسود وبابه أسود وحيطانه سوداء زادها تكلّس الأوساخ بشاعة. يرتع فيه القمّل صعودا ونزولا وفي زاوية من زواياه ثقب يستعمل لقضاء الحاجة البشريّة.
4. ما ظنك بدولة تمثّل هذه القذارة المثيرة للغثيان جزءا من سياستها ويجلس موظّفوها “الكبار” ووزير داخليّتها في مكاتب لا يفصلها عن هذا الجحيم إلّا درج ضيّق؟
5. في هذا الكهف نال الكاتب وصحبه عذابا جسديّا ونفسيّا يقول لنا الكاتب إنّه يذكره اليوم -بعد أربعين سنة- فتتملّكه رغبة في البكاء. كان الواحد منهم يغادر الكهف على أقدامه ويعود إليه بعد ساعات زاحفا أو محمولا.
6. هنا لا بدّ من التّوقّف قليلا عند شخصيّة “المحقّق” الذّي لا يمارس التّعذيب بنفسه بل يأمر به زبانيته بكلمات قصيرة من نوع “اتلهاولي بيه”.
7. يرد ذكر هذا الرّجل ثلاث مرّات في الكتاب. في المرّة الأولى يقول الكاتب إنّه “كانت تبدو عليه ملامح الطّيبة” وإنّه بدأ مخاطبته بـ”تفضّل اجلس ولدي”لكنّه ما إن سمع الجّواب على سؤاله الأوّل حتّى “انتفض واقفا متوعّدا” ودعا “الأولاد” إلى المجيء وإلى “الاهتمام” بالسّجين فجاء “الأولاد” واهتمّوا به اهتماما خاصّا ثمّ أعادوه إلى الكهف. المرّة الثّانية كانت في الغد وأعيد فيها نفس السّيناريو لكن بنسق أسرع إذ أنّ أمر المحقّق للأولاد كان بمجرّد إيماءة من رأسه وأنّ اهتمام الأولاد كان أسرع وأكثر وحشيّة.
8. المشهد الثّالث يستحق وقفة خاصّة بل لعلّه يستحقّ أن يدرّس في جامعات التّوحّش والمدارس العليا للتّعذيب. يسلّم المحقّق السّجين لزبانيته وينسحب. يفعل الزّبانية بالسّجين ما يفعلون. يعود المحقّق وفي يده قفّة ويبدأ في الحديث مع “الأولاد” كما يتحدّث عامّة النّاس في المقاهي والبيوت. يتحدّثون عن كرة القدم.
9. لماذا يستحقّ هذا المشهد وقفة خاصّة؟ لأنّ هذا الحديث العاديّ بين أناس عاديّين كان يتمّ بحضور رجل معلّق في وضع الدّجاجة المصليّة -يا لطيف- ولأنّ العائد بقفّته من السّوق كان يستعمل عورة الرّجل المعلّق كمنفضة وأنّه لمّا انتهى من التّدخين أطفأ سيجارته في جسده.
10. في بعض أفلام الرّعب هناك مشهد ترتفع فيه درجة الحرارة وينصح ضعاف القلوب بإدارة وجوههم وهو المشهد التّي تتحوّل فيه إحدى الشّخصيّات من بشر إلى وحش. ما تقوله لنا شخصيّة المحقّق هو أنّ الرّجل-الوحش ليس محض خيال وأن على وجه الأرض أناس تنعدم المسافة عندهم بين التّفاصيل العاديّة للحياة اليوميّة وأشدّ المعاملات ساديّة.
11. تستحقّ شخصيّة المحقّق أن تضاف إلى متحف البشاعات التّي بنته دكتاتوريّات القرن العشرين لبنة لبنة وسبق أن دعانا إلى زيارته سجناء سابقون (مثلا أحمد المنّاعي في كتابه باللّغة الفرنسيّة) وكتّاب كبار نذكر منهم عبد الرّحمان المنيف (شرق المتوسّط) وآرثر كوستلر (ظلام في الظّهيرة: بالأنقليزيّة).
12. بعد الكهف وعذاباته يصف لنا الكاتب السّجن -حيث يستعيد الإنسان بعض إنسانيّته- وانتظار المحاكمة وإضراب الجّوع وزيارات الأهل القليلة ورفاق السّجن -ومنهم سياسيّون ومنهم سجناء حقّ عامّ- .
13. يقدّم لنا الكاتب في هذه الصّفحات معرضا لصور -“بورتريه”- رسمها بكلماته يصف فيها النّفس البشريّة وصفا بعيدا كلّ البعد عن منطق الأسود والأبيض فتبدو في كلّ تعقيداتها ووجوهها المتعدّدة. هناك مثلا السّجّان الطّيّب وهناك سجين الحّقّ العام -قاتل النّفس- صاحب الصّوت الجّميل- الذّي يصرخ وهو يقاد إلى المشنقة طالبا صفح رفاق السّجن ودعواتهم وهناك السّجناء الذّين يتشبّهون بالنّساء إلى درجة تجعلك تتردّد بين الضّحك والإشمئزاز.
14. هناك تعبير فرنسيّ يقول إنّ الإنسان الذّي يسافر ليس هو نفسه الذّي يعود. يسافر بشر ويعود من السّفر بشر آخر. غادر الكاتب موطنه في سيّارة أمن وعاد إليه بعد سنوات ثلاث في سيّارة أجرة لم يكن يملك معلومها وبين هذه الرّحلة وتلك عاش مع القمّل والبعوض والوحوش البشريّة لكنّه عاش أيضا علاقات التّضامن مع رفاق المحنة والمقاومة السّلميّة لثقافة القمع.
15. يقول الكاتب في وصف هذا العائد من السّفر “إحساس بالغربة ينتابك وأنت تسير وحيدا في دروب كنت تعرفها”. يقول “كنت تعرفها”. كان يعرفها الذّي سافر أمّا العائد فيسأل نفسه “هل تراها عرفتك ؟”.
16. انخرط في العمل النّقابي المحلّي ولعلّه وجد فيه جوابا على سؤال عمليّ ملحّ: بما أنّ غياب الدّيمقراطيّة واختلال موازين القوى يجعل العمل السّياسيّ غالي الثّمن ضعيف القيمة المضافة أفلا يكون العمل الميدانيّ -ثقافيّا كان أو نقابيّا- هو الطّريق إلى التّغيير البطيء للعقليّات والممارسات ؟
17. طالته المضايقات بعد عمليّة قفصة (1980) وشهد الدّقائق الأولى من أحداث الخبز (1984) وعاش حرب الخليج (1991) بكلّ جوارحه وانتقل فيها كما انتقل الكثيرون من إيجابيّة العمل الميداني والحلم بالنّصر إلى مرارة الهزيمة التّي كانت ضربة قاصمة للتّوجّه الوحدوي بعد الطّفرة المدهشة التّي عرفها في تلك الفترة.
18. هذه النّقطة الأخيرة تنقلنا من الدّائرة الأولى للقراءة (السّيرة الذّاتيّة) إلى الدّائرتين الأخريين اللتين أشرنا إليهما في الفقرة الأولى.
19. في النّصف الأوّل من سبعينيّات القرن الماضي كان عبد النّاصر مازال يهيمن بقامته العالية وظلّه الأخضر على هذه الأرض التّي فارقها جسده قبل ذلك بسنوات وكان القذّافي يخطو خطواته الأولى -والأخيرة- كأمين للقوميّة العربيّة وكانت المقاومة الفلسطينيّة تحتل العناوين الأولى في نشرات الأخبار مثيرة إعجاب العالم المنافق وفزعه وقلقه.
20. في ذلك الزّمن الجميل كان النّاس يعيشون على أحلام الوحدة وتحرير فلسطين. لا غرابة إذن أن يحدث ذلك المشهد المؤثّر الذّي يصفه المؤلّف وهو مرور الدّبّابات الجزائريّة بالجنوب التّونسي قاصدة الجبهة المصريّة في حرب أكتوبر-رمضان ولا غرابة أن تعلو الزّغاريد وأن يقبّل الناّس الدّبّابات ومن يركبها وحذاء من يركبها.
21. تقرأ هذه الفقرة بالذّات فتتملّكك رغبة في كتابة نصّ عنوانه “أين كنّا وأين أصبحنا من وجهة نظر قوميّة” ولو فعلت لاضطررت إلى الإعتراف بأنّ الإقليميّة انتصرت انتصارا ساحقا في الواقع وفي العقول.
22. ماذا حدث لكي ننتقل من زمن الحلم إلى زمن التّسليم بالهزيمة ومن زمن “نقاوم وقد ننهزم” إلى زمن “لا داعي للمقاومة ما دمنا سننهزم وهل هناك أصلا ما يدعو إلى المقاومة ؟” ومن زمن اللاءات الثّلاث إلى زمن التّطبيع ؟
23. بما أنّ الوحدة لا يحقّقها ولا يسعى إليها ولا يحلم بها إلّا الوحدويّون فإنّه بإمكاننا أن نعيد السّؤال بصيغة أخرى: لماذا فشلت الحركة القوميّة في بناء دولة الوحدة-النّواة وفي تحرير الأرض العربيّة -أو على الأقلّ جزء منها- وفي تحديث المجتمعات العربيّة وفي الخروج بالإقتصادات العربيّة من الهشاشة والتّبعيّة وفي جعل العربيّة لغة علم وتكنولوجيا ؟
24. لماذا فشلت وقد كانت لها أهداف نبيلة وعلى قدر لا بأس به من الواقعيّة وكانت لها قواعد عريضة و مفكّرون كبار ومناضلون واجهوا السّجن والمنفى والمشنقة ؟
25. أذكر أنّ شابّا عربيّا طرح يوما على الدّكتور عصمت سيف الدّولة سؤالا اعتبره هذا الأخير استفزازيّا. قال: لماذا فشلت الجّمهوريّة العربيّة المتّحدة “حتّى” في الحفاظ في وجودها؟ ونسأل بدورنا لماذا فشل القوميّون العرب “حتّى” في الحفاظ على حلم الوحدة؟
26. لن نحاول في هذا الحديث السّريع الإجابة على هذا السّؤال الكبير بل سنكتفي بسؤال أكثر تواضعا: هل هناك في الأحداث التّي عاشها الكاتب أو كان شاهدا عليها ما يترك مجالا للأمل في مستقبل هذه الأمّة؟
27. نتذكّر أنّ لاعب الورق بإمكانه أن يغيّر قيمة كفّه بمجرّد أن يعيد ترتيب أوراقه فنقول تعالوا نعد ترتيب بعض الأوراق التّي يضعها الكاتب بين أيدينا علّنا نجد لها قراءة تخرجنا من ثنائيّة الصّعود السّريع إلى المنحدر أو النّزول الأسرع إلى القاع وتنقلنا من التّشاؤم الأكثر سوادا إلى “التّشاؤل” -مجرّد التّشاؤل-.
28. لأنّ الحياة أخصب خيالا من كلّ الشّعراء ومن كلّ الفنّانين فقد وضعت في حياة الكاتب وأمام عينيه صورا نقلها إلينا رسما أو تصويرا سينمائيّا بقلمه.
29. الصّورة الأولى هي صورة الرّجل-الوحش التّي ورد ذكرها في بداية هذا الحديث.
30. الصّورة الثّانية هي صورة المناضلة اليساريّة التّي رآها الكاتب في الكهف. كانت مكتوفة ممزّقة الملابس يقول جسدها إنّ الوحوش مرّت من هنا ومع ذلك كانت تبتسم. هيئة “سندريلّا” وابتسامة “الجوكوندا”. يقرأ القارئ وصف الكاتب لها فيقول “ليتني كنت رسّاما”.
31. الصّورة الأخيرة هي صورة الأمّ وما أدراك ما الأمّ. تأتي إلى ابنها الخارج لتوّه من السّجن جريا بين كثبان الرّمال. تسقط وتقوم. تزغرد فتخرج الزّغاريد من فيها ممزوجة بالبكاء.
32. نعيد ترتيب الصّور الثّلاث ونحاول فكّ رموزها فنرى ما لم نكن نراه. الرّجل-الوحش هو قمّة الهرم. عن هرم الفساد والجّهل أتحدّث. ينهار الهرم عندما تزول قاعدته. الفتاة هي المقاومة. أمّا ألأمّ فهي الأمّة. تسقط مرّة فتقوم مرّتين. قد لا تملك أكثر من زغاريدها ودموعها لكنّها ولّادة.
33. هذا الكتاب دعوة إلى “التّشاؤل”. مازال في الدّنيا ما يجعلها تستحقّ أن نعيشها. مازال في هذه الأمّة ما يجعلنا لا نستسلم إلى السّوداويّة.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

تونس.. نخب الغد ولدت منذ قليل

حسين السنوسي يلفت انتباهك مقال يتحدّث عن “الشّخصيّة التّونسيّة من حنّبعل إلى بورقيبة” فتقول “لو …

شرف الكتابة عن رسول الله (صلّى اللّه عليه وسلّم)

حسين السنوسي 1. لا يعنيني الجدل المملّ والعقيم الذّي يعود كلّ سنة حول جواز الإحتفال …

اترك تعليق