عادل بن عبد الله
أثار القرار الأخير للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القانون جدلا واسعا في تونس. وهو جدل عمقته بعض التسريبات التي تتحدث عن ضغوط مارستها السلطة التنفيذية على أعضاء الهيئة.
ونص قرار أعضاء الهيئة المجتمعين بباردو يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 على “إحالة مشروع القانون الأساسي عدد 49 لسنة 2015، المتعلق بالمصالحة في المجال الإداري إلى رئيس الجمهورية، لعدم توفر الأغلبية المطلوبة لإصدار قرار في الغرض”.
فبعد التعادل في التصويت بين الأعضاء الستة للهيئة -ثلاثة أعضاء مع القانون وثلاثة ضده- ونظرا لتعذر اتخاذ قرار بالأغلبية، فإن الهيئة أحالت الأمر إلى رئيس الجمهورية.
ومن المتوقع أن يُمضي الرئيس على هذا القانون ليصبح نافذ المفعول في حينه، كما فعل سابقا عندما أمضى على قانون المجلس الأعلى للقضاء وحسم السجال حوله بصورة هي أقرب إلى لعب دور “الخصم والحكم” منه إلى دور حامي الدستور، وممثل كل التونسيين لا راعي مصالح فريق منهم فحسب.
ومنذ صدور قرار الهيئة، تعالت أصوات المعارضة للتعبير عن رفضها لهذا القرار.
فقد طالب السيد غازي الشواشي الأمين العام للتيار الديمقراطي وعضو مجلس النواب أعضاء الهيئة بالاستقالة، معتبرا قرارهم داخلا فيما أسماه بـ”إنكار العدالة”.
وهو كما جاء في تدوينته على صفحته الرسمية على “فيسبوك”، مصطلح يُقصد به رفض أجهزة القضاء -صراحة أو ضمنا- الفصل في الدعاوى والنزاعات أو تأخير الفصل فيها رغم صلاحيتها للفصل.
وعبّرت الجبهة الشعبية عن رفضها لهذا القانون، وهو ما فعله “حراك تونس الإرادة” حزب الرئيس السابق منصف المرزوقي.
ولعلّ ما يجعل الأمر خطيرا، هو انعدام أي أفق لمعارضة هذا القانون بعد الآن، إلا بتحريك الشارع، وما قد يفتحه ذلك من صدامات أو تأثيرات على المسار الانتقالي برمته.
رغم شرعية الاحتجاجات على صدور هذا القانون، قد يكون علينا أن نحاور منطق المعارضة -أو على الأقل منطق أطياف رئيسة فيها- قصد فهم مآلات الثورة وانتكاساتها المتسارعة منذ أن تمت إدارتها بمنطق “استمرارية الدولة” لا بمنطق “مأسسة الثورة”.
ومنذ أن تحول الصراع من مدارات التناقض مع المنظومة القديمة إلى مدارات الصراع الهووي الثقافوي بين الإسلاميين والعلمانيين، وهو صراع دونكيشوتي مازال يطلّ برأسه إلى الآن بين الحين والآخر.
ولذلك، فإن شرعية الاعتراضات والشكوك في القرار الأخير للهيئة لا ينبغي أن تُنسينا دور المعارضة ذاتها في مسار كامل مع الارتكاسات التي مهدت لعودة المنظومة القديمة إلى مراكز القرار بتفويض شعبي لم يُشكك في نزاهته إلا القليل ممن يشكّلون “المعارضة” داخل المجلس النيابي أو خارجه.
ويمكننا إجمال النقد الموجّه إلى أداء المعارضة في نقطتين أساسيتين:
1. نقد يمكن توجيهه إلى المعارضة غير الانقلابية، وهي تتشكل أساسا من الأحزاب المنشقة عن “حزب المؤتمر من أجل الجمهورية”.
ولا شك في أن هذه الأحزاب تتحمل بتشتتها وبنزعات قياداتها الزعاماتية جزءا من المسؤولية على المشهد السياسي الحالي.
فقد خسرت هذه الأحزاب برفضها الدخول في قوائم مشتركة أكثر من 10 مقاعد في الانتخابات التشريعية الماضية، وهو ما سمح لبعض الأحزاب القريبة من نداء تونس (خاصة آفاق تونس والوطني الحر) من احتلال مواقع متقدمة في المجلس النيابي.
بل سمح للجبهة الشعبية بأن تكون قاطرة المعارضة النيابية، وما يعنيه ذلك من تأبيد للصراع الهووي ضد النهضة أساسا وتهميش للصراع ضد البرجوازية “الحداثية” اللاوطنية.
وقد يكون من نافلة القول، أن نشير إلى أنّ استمرار الصراع بين أجنحة المعارضة غير الانقلابية (المنحدرة من المؤتمر أو غيرها) يساهم إلى حد ما في نجاح الاستراتيجيات الانقلابية السلطوية، بل يساهم في منع انبثاق أي بديل سياسي ذي عمق شعبي وذي مصداقية عند الرأي العام.
2. نقد يمكن توجيهه إلى المعارضة الانقلابية، وهي تتشكل أساسا من الجبهة الشعبية، ومما يُسمّى بمكونات”العائلة الديمقراطية”.
ولا شك بأن منطق “قطع الطريق” على الرئيس السابق منصف المرزوقي، ومنطق الصراع الوجودي مع حركة النهضة -على خلاف التقارب في أكثر من محطة مع ورثة التجمع منذ انتخابات المجلس التأسيسي- يجعلان من مواقف هذه “المعارضة” موضع ريبة شرعية، سواء في علاقة تلك المواقف بأفق التأسيس للجمهورية الثانية -أفق الشراكة بين الإسلاميين والعلمانيين ضمن مشروع مواطني اجتماعي- أو في علاقة تلك المواقف بالمصالح “العليا” للمنظومة الحاكمة قبل الثورة وبعدها.
ولا شك بأن الكثير من التونسيين مازالوا يذكرون مواقف الجبهة من الإصلاح الإداري (وتعطيله بدعوى الخوف من “أخونة الدولة”) ومواقفهم من “العزل السياسي” للتجمعيين، وغير ذلك من المسائل التي قد تلقي بظلال كثيرة على المحددات الحقيقية -أو المبدئية- لمواقف “اليسار الثقافي”.
ولو أردنا أن نوجّه نقدا يشمل المكوّنين الأساسيين للمعارضة “النيابية” وسائر مكونات “الكتلة الديمقراطية”، لقلنا إنّ هذه المعارضة لم تخرج بعد من دائرة رد الفعل، وإنها ما زلت عاجزة عن أن تكون قوة اقتراح حقيقية، أي قوة اقتراح تمتلك من وسائل الإقناع العقلي والإشباع النفسي ووسائل التفاوض والضغط، ما يجعل السلطة مضطرة إلى الإصغاء إليها وإلى تعديل أدائها تعديلا جذريا.
كما أن المعارضة بجميع أطيافها مازلت مصرة على التعامل النقدي مع المخرجات والنتائج دون أن تقوم بمراجعة نقدية لدورها “السلبي” في بناء المقدّمات وتحديد المسارات التي أفضت إلى تشكيل المشهد الحالي.
في العمل الديمقراطي، من المعلوم أنّ للاحتجاج على نظام الحكم أكثر من شكل، وبصرف النظر عن دور المعارضة في الوضع السياسي الحالي، فإن “اللامفكر فيه” من الأشكال النضالية يضعنا أمام عمق الأزمة، بل أمام الدور الحقيقي الذي تقوم به أطياف كثيرة من المعارضة في تشكيل الديكور الديمقراطي “الصوري”، بالتالي في شرعنة النظام القائم.
ونحن نعني بـ”اللامفكر فيه” هنا، شكلا احتجاجيا معينا هو “تعليق العضوية” أو حتى الاستقالة من المجلس النيابي ووضع النظام أمام إحراج سياسي وأخلاقي كبير لن تنفعه للخروج منه إلا الحلول الحقيقية.
إنّ من حق المراقب للشأن العام التونسي، بل من حق المواطن العادي أن يتساءل عن سبب عدم التجاء المعارضة إلى تلك الأشكال النضالية المشروعة للوقوف أمام تراكم تجاوزات السلطة للدستور وللقانون، بل أمام استحالة تلك التجازوات إلى ممارسة ممنهجة:
• فلماذا لم تعلق المعارضة وجودها في المجلس للاحتجاج على تعطيل مسار تركيز الهيئات الدستورية (مثل المحكمة الدستورية العليا التي كان من المفترض قيامها قبل 2015)؟
• لماذا لم تحتج على التعطيل المتعمد لعمل الهيئات العليا (حتى اضطر المجلس الأعلى للقضاء لتقديم شكوى بالحكومة لعدم وفائها بالتزاماته المالية تجاهه)؟
• لماذا لم تطلب المعارضة من رئيس الدولة تقديم ملفه الطبي وملفه المالي، وتلزم بذلك كل أعضاء مجلس النواب والوزراء والموظفين السامين؟
• لماذا لم تجبر رئيس الوزراء على الحضور شهريا إلى المجلس كما ينص الدستور؟
• لماذا لم تتحرك قاطرة المعارضة -أي الجبهة الشعبية- ضد “أزلمة الدولة”، أي ضد تثبيت الأزلام في مواقعهم وإعادة من أُبعد منهم إلى مواقع متقدمة في السلطة؟
• لماذا لم تتحرك المعارضة بصورة جدية ضد كل الإخلالات القانونية والدستورية التي كان من الواضح أن تراكماتها ستؤدي بالضرورة إلى انتكاس الانتقال الديمقراطي والعودة إلى “الدولة البوليسية”، وإن كان بغطاء ديمقراطي صوري؟
ختاما، من المنطقي ألاّ تكون المعارضة في المجلس النيابي قادرة على إسقاط مشاريع القوانين -بحكم أنها أقلية- ولكن من غير المنطقي أن تواصل التفكير بطريقة الطرح “الموضعي” للمشاكل وفصلها عن المسارات التي أوصلت إليها.
تلك الطريقة تبريرية توفّر الإشباع النفسي لأصحابها، وتحفظ نرجسياتهم، ولكنها ستجعلهم عاجزين بالضرورة عن ردم الهوة بين مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع.
ولذلك قد يكون على المعارضة -قبل أي نقد مشروع للسلطة- أن تفهم أن النتائج هي من جنس المقدمات والمسارات، وعليها أن تفهم أيضا أن دورها -أو على الأقل دور جزء كبير منها- في تقوية السلطة التي تدعي أنها تحارب فيها.
وأن تعي بأن دورها في تكريس التغول وانتصار المنظومة النوفمبرية هو حقيقة موضوعية تتجاوز النوايا “الطيبة” والادعاءات الذاتية التي لا تصلح إلا للاستهلاك الإعلامي والتجييش الانتخابي.
عربي 21