نضال السالمي
(تدوينة ضاهرها على غير باطنها)
أكادُ أجزمُ أن لا أحد في هذا الكون يشعر عميقا بالسعادة غير راعي أغنام في الجبال البعيدة.. يصلّي خاشعا ويمرحُ مع أغنامه لينام في ظلال الأشجار الباسقة.
الحضارة المعاصرة الّتي تورّطنا جميعا بالإنتماء إليها بل صرنا قطع غيار في آلاتها الضّخمة.. هذه الحضارة التي صنعناها بغرور عقليّ وأوهام بائسة حول السعادة الدنيوية صارت هي من تتحكّم بنا وتحجب عنّا كلّ آفاق السعادة.
نحن في وضع ما بعد – مأساوي.. أنظر في وجوهكم جميعا كلّ يوم.. في الشوارع والأسواق والمؤسسات والفايسبوك.. ثمّ أتداعى للبكاء نيابةً عنكم: ذلك أنّكم لا تعلمون حتّى كم أنتم غارقون في المأساة والعدميّة واللّامعنى.
—— بالفلّاقي : دنيويّا قد خسرتم المعركة كاملة.. هذا أمرٌ محسوم.. ومن يتوهّم أنه سعيد وناجح فيكم فليتّصل بي لأشرح له مئة سبب تجعله فاشلا ومدحورا في هاوية العدم والإنحطاط الحضاري -مثلنا جميعا-.
الأمر الثاني لمن يؤمنون باليوم الآخر: تعلمون جميعا -ويا للهول- أنّنا نصلّي 10 سنوات حالمين أن نخشع في ركعةٍ واحدة.. وهذا تعبير مجازي على حجم الهاوية.. يعني أننا قد نجد أنفسنا أغلب الظنّ : خسرنا الدنيا بآسم كل الفلسفات والتوجّهات والخيارات.. وخسرنا الآخرة لنفس الأسباب.
ما الحلّ ؟؟؟
ماو من هاك العام قلتلكم.. فقلتم لي: متشائم.. سلبي.. مأساوي..
لا أرى لي ولكم من حلّ غير اللحاق براعي الأغنام المذكور في بداية النصّ.. أو -وهذا الأقرب والأنجع-: الإلتزام بالبكاء كأقصى ما يكون منهجا وفلسفةً وأسلوبا للوجود.
• معلومة : أنا رجل مسكين وضالّ مثلكم تماما لكن قد يكون الله أكرمني ببعض الفهم ومسح من قلبي التعلّق الشيطاني بالدّنيا.. فأمكنني الوصول لعمق الحديث النبوي.. الذي أعتبره أحد مفاتيح الرسالات السماويّة جميعا:
قال سيّدي رسول الله وفارس الإنسانيّة جمعاء محمّد بن عبد الله (ص): “لو علمتُم ما أعلم لضحكتُم قليلا وبكيتُم كثيرا”..
وقال أحد صحابته الكرام أنّه مرّ ليلا قريبا من غرفته فسمع من بعيد بكاؤه يغلي في صدره.. في الحديث: “رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء”.. أي يغلي صدره بالبكاء مثلما تغلي قدور الطعام..
ونزل سيّدي يوما في قبر حفيده على ما أذكر.. وكان قد مات صغيرا.. فبكى كثيرا حتّى آبتلّت لحيته ثم قال: “آعملوا لمثل هذا اليوم”.
وتحدّث الأوّلون عن بكاء عمر بن الخطاب حين كان يصلّي بالناس.. وأما أبا بكر فكان لا يكفّ عن البكاء في صلاته حتى لا يفهم الناس من أيّ سورة يقرأ..
ذات مرّة منذ عام تقريبا قمت ببحوث ذاتية عن تاريخ البكّائين الكبار في التاريخ.. وكتبتُ نصّا طويلا عن ذلك.. فوجدت الأنبياء والصالحين والعارفين والعميقين والرائعين جميعا من أعظم وأفضل البكّائين..
البكاء الذي أتحدّث عنه ليس ما تفهمونه من الإستسلام والسلبيّة.. بل هو روح الفهم وتاج العلم وسبيل الرحمة ونور المحبة وبهجة العمل..
البكاء الّذي أعنيه هو الثورة الحاسمة ضدّ بنيان الوهم الحضاري.. والوعي الأعظم بالهاوية الّتي يسّاقَطُ فيها الخلق جيلا بعد آخر معتقدين أنّهم يذهبون صوب المجد..
البكاء هو صرخة البشر في وجه تلك الغربة الموحِشة الّتي يثيرها الوعي بطول الطّريق وقلّة الزّاد ورعب المصير.