التوافق في تونس بين ربح الحزب وخسارة الثورة
فتحي الزغــــــل
بدأت منذ حادثة اغتيال سياسي عروبي التّوجّه إبّان العام الثاني لثورة “تونس” مناكفات سياسيّة تتلخّص في تصميم كلّ التّيّارات السّياسيّة باختلاف مشاربها وتوجّهاتها في تجاوز نتائج انتخابات السنة التي تلت الثورة والتي شهد العالم بأسره بنزاهتها، وتنصيب حكم آخر على أنقاض تلك ما أفرزته تلك الانتخابات وأقصد ما سمّي في تلك الفترة “الترويكا” نسبة إلى الثلاثي الذي تشكّل من ثلاثة أحزاب فائزة أكبرها وأكثرها تنظما حزب حركة النهضة الإسلامي التّوجّه. المناكفات التي لم يسمّها هؤلاء المتآمرون على خيار الشعب انقلابا مثلا بل أخذوا يصنّفون له تسميات مختلفة تراوحت بين “حكومة المرحلة” و”معاقبة الفاشل” و”مقاومة الأسلمة”. فكان أن انصاع هؤلاء الإسلاميّون لهؤلاء الانقلابيين انصياعا، لكنّهم اختاروا لانصياعهم مصطلحا آخر جديد بدأ ينتشر منذ تلك الأيّام الحالكة على ديمقراطيّة وليدة وهو مصطلح “التوافق”…
فما يسمى “التوافق” -وهي كلمة أطلقها إسلاميو تونس كأول من أطلقها- تعني في جوهرها أن لا يحكم فصيل أو حزب لوحده شعبا من تلك الشعوب التي ثارت على جلاديها. بدعوى فوزه في الانتخابات التي تنظمت إبّان سقوط هؤلاء الطغاة. وبالطبع فإنّ المقصود من هذه القاعدة -غبر المنطقية في الممارسة السياسيّة- هم الإسلاميون أنفسَهم كفصيل سياسيّ اختاره الشعب للحكم بأغلبية مريحة جدّا بالمقارنة مع غيرهم من التّيّارات السّياسيّة الاخرى التي يضرب بعضها جذورا في التاريخ وبعضها الآخر مسافات في الجغرافيا و بعضها الآخر معرّات في العمالة والفساد والتبعيّة للأجنبي. وكلّ ذلك حدث حتى لا يضيق عليهم الخناق داخليا وخارجيا في تلك الدّولة كما ضاق على الذين يشاركونهم مرجعيتهم في دول مجاورة. إذ من المعروف أن الأقليات السياسية في تلك البلدان كما في “تونس” وباختلاف مشاربهم المرجعية يناصبون “العداء” للمشروع السياسي الإسلامي، عداء يتقاطعون به مع القوى الخارجية التي تمارس الامبريالية مع تلك البلدان.
وعليه فإنهم كمن حكم على نفسه بالسجن مع مخالف لقانون مثلا بدعوى تجربة السجن منهم وتنقيصا من هوله عليه. لأنّ حقيقة الممارسة التي أعقبت التوافق، أظهرت أن من يتعامل معهم الإسلاميون ليسوا حملانا يعترفون بالجميل بل انقلابيون يترصّدون الهفوة لينقضّوا على الجبنة من المنقار متى وقعت منه. ولنا في “مصر” أحسن مثال على خيانتهم وعدائهم ومنهجهم الاستئصالي. وفي “تركيا” أحسن مثال كذلك لخططهم ولمؤامراتهم ولأهدافهم التي لا تمتّ بأيّ صلة لا بالديمقراطية ولا لحقوق الإنسان. فهناك قتَل العسكر مدنيّين معتصمين في “رابعة” و “رمسيس” طالبوا بتكريس نتائج انتخابات نزيهة لم تشهدها منذ عهد الفراعنة، فنجحوا في افتكاك السلطة بذاك القتل. وهنالك قتلوا مدنيّين وهم في مراكز عملهم أو في أوقات نزهتهم بالطّائرات وبالدبّابات على الجسور وفي الميادين العامّة بدم بارد ليفتكّوا السلطة إلّا أنهم لم ينجحوا ذات صيف مضى.
وفي تقديري، قد أتت التجربة التونسية بسبب هذه الفكرة إلى نقطة بيع الثورة ومطالبها للنظام الذي قامت عليه عند قيامها بلا شكّ، وأقصد كل المطالب المتعلّقة بالإنسان ومواطنته سواء في الحرّيّات أو في المطالب الاجتماعية أو في الحرّيّة السياسية أو في المسألة الاقتصادية. إذ أخذ الإسلاميون بدعوى “التوافق” هذا، يتنازلون عن مطالب الثورة تلك، تحت وطأة الخوف من الرجوع إلى السّجون، حتى وصل بهم الأمر إلى نفاذ المطالب الثورية التي نادى بها الشعب في ثورته من جعبتهم. فلبسوا -أو لأقل ألبِسوا- أكفان الحياة السياسية وهم أحياء عند الشعب لا يرزقون. حتى أضحت الصورة تحوي شعبا مشدوها من محنته التي تتضاعف يوما بعد يوم في مقابل وريث شرعي لمحنته أيام الديكتاتورية -وأقصد هؤلاء الإسلاميّين- يتفرّجون عليه في محنته التي وصلوا إليها بعد ما انتخبوهم، وهم اليوم بين أروقة الحكم وأرائكه، يكرّسون فكرة قد تكون لا يقصدونها وهي أنهم نسوه وباعوا مطالبه تحت تأثير حلاوة الحكم والخوف من الخروج منه، لأن الخروج منه لا يكون حسب تقديراتهم سوى نحو سجن أو منفى.
وعلى هذا القياس فإنّني أرى أنّ “التوافق” هذا الذي ابتدعه الإسلاميون في تونس، هو السبب في انكسار عود إسلاميي ليبيا، وهو السبب في انكسار عود “قطر” ولو نسبيًّا بين جيرانها الخليجيّين، فاعتدوا عليها بالحصار الظالم هناك، وهو السبب في تراجع إسلاميّي “فلسطين” في “غزّة العزّة” أين يسلّمون الآن حبلا لمن يترقّب الفرصة ليشنقهم به هناك. فــ “التوافق” الذي يقول بعض المراقبون بأنّه قد أتى بنتائج انحصرت في عودة النظام القديم في البلاد التي لم تشهد انقلابا بالمفهوم العسكري للكلمة، إنّما أعاد ما يؤثّثه الانقلاب من صور في تلك البلاد وغيرها عند نجاحه، من أشخاص فاسدين ونظم فاسدة وسياسات فاسدة وخاصّة خاصّة… منهج فاسد.