بحري العرفاوي
الثورات دائما تتأسس على أفكار جامحة محرورة وعلى قيم متسامية وعلى روحانية متمردة شجاعة… تسكن الثورة في الفكرة الشجاعة وفي الأشواق الحية وفي الإرادة المتقدة… حين تنتصر “الثورة” وتتشكل في هيئة “دولة” تبدأ في البرود وفي الإنحسار وتبدأ مفردات جديدة في الشيوع من “واقعية” و”تدرجية” و”ضرورات المرحلة” و”مقتضيات السياسة” ويبدأ الثوريون في البحث عن مواقعهم وعن حجم تضحياتهم وعن صورتهم في المشهد الجديد… تبدأ “الدولة” في ابتلاع “الثورة” ويحل الأفرادُ محل الأفكار والمعاني وتبدأ بذور الثورة القادمة في التخلق… تتخلق من حجم الأخطاء ومن حجم العثرات والإساءات…
تلك السياسة ماكرة ومتربصة ومنتقمة دائما… السياسيون المَهَرة هم الذين ينظرون للمستقبل مجهزين بمحبة الناس وبقدرة على التحمل والتجاوز والإيثار وهم الذين يتدربون باستمرار على تنقية النفس من التشوهات الطارئة تفرزها الغرائزية السياسية والعُجب التحكمي… حالة التحكم مُولدة للعُجب والكبراء والخيلاء والنسيان… قد ينقلب المستضعفون على أنفسهم حين يتبدل حالهم وتتغير مواقعهم حيث تسوقهم الأقدار إلى رأس الهرم “إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” “إن الإنسان خُلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخيرُ منوعا”… بلاءات الرخاء أشد من بلاءات الشدة وإن الإنسان لينسى… كيف لهذا الكائن الذي مشى طويلا مُكبا على وجهه خوفا وتوجسا أن ينقلب على نفسه ليصبح متعاليا ومكابرا مدفوعا بشهوة التحكم وبرغبة جامحة في الإنتقام من نفسه -التي ضعفت وتذللت- وليس من الإستبداد الذي أضعفه وأذله… من انتصر للإنسان المقهور فيه لا يُنتظر منه تشهيا مَرَضيا لقهر غيره إذا ما دفعت به الأقدار إلى وضعية مختلفة…
تحتاج الثورات متخصصين في علم النفس السياسي حتى يُسهموا في بناء الدولة “بعد انتصارها كي لا يتسلل إليها المُثقلون بعُقَدٍ ولوثاتٍ وأعطاب لن تكون إلا بذورا لثورات مضادة وبقدر خطورة تلك الأعطاب” بقدر تسريع آجال تداعي “الدولة الجديدة” وللتاريخ سننه وللدول آجال تتحدد وفق قانون العُمران البشري… إن العواطف الخلاقة هي وقود حركة وتنامي الدول: عواطف الشوق والمحبة والتسامح والإيثار والتواضع والتعفف… التشوهات النفسية لا تتوارى في الأنفس كما قد يُظن أو يعتقد الطب النفسي إنما تنساب في النسيج الإجتماعي تفتك به وتضعف فيه جهاز المناعة المدني وتُعطل حركته إلى المستقبل المتجدد… “الدولة” تأكلها الأنفس المعوقة حين يتسلل الجشعون والمتملقون والنمامون والإنتقاميون والقوادون إلى مفاصلها يشلون حركتها ويُصيبون جسدها -من أدناه إلى أعلاه- بحُمّى دائمة… النزعة الغنائمية غريزة بشرية ولكنها مُهلكة ومُجهضة لكل مقدمات وبشائر نصر… لقد تسبب بعضُ “الغنائميين” في هزيمة كل جيش المسلمين وهو في حالة نصر في معركة أحد حين نزلوا من على الجبل يستعجلون نصيبهم من الغنائم…
تحتاج الدولة روحانية متسامية متعففة ومعطاءة كي تتوغل في المستقبل وكي يمتد بها الأجل وكي تترجم أناشيد الثورة ودماء الشهداء وأشواق الناس نماءً وعدالة ورفاها وقيمًا جديدةً… حين يتدافع الفارغون وضعاف النفس والمُراؤون إلى مقدمات المشهد يكونون قد حجبوا مُدخرات علمية وفكرية وتخصصية يحرمون منها “دولة الثورة” ويكونون أيضا قد استعجلوا تداعي البناء… تحتاج “الدولة” ثقافة لا تغادر “زمن الثورة” ولا ترحل إلى “زمن الدولة” حتى يظل المستقبل محروسا بالفكرة الحية والنقد الشجاع والحكمة الهادئة وهنا يكمن الخلاف بين سياسيين يتكلمون عما بعد الثورة حين يُمسكون بالدولة وبين مثقفين يتحدثون عن ثورة لا تنتهي ولا تستنفد أغراضها بمجرد تبدل الأسماء أو حتى تغير الأحوال… فالثورة في العقل السياسي هي حدث يترتب عنه انهيار جهاز حاكم وقيام جهاز جديد بمضامين مختلفة وسياسات مختلفة أيضا، وهي في قاموس المثقف حالة من التجدد الدائم والتوغل المستمر في المعاني والقيم والأشواق… وحتى تستمر الدولة عليها أن تظل في حالة “ثورة” أي حالة من التطهر الدائم من التشوهات والمعوقات الكامنة في مفردات قاموس السياسة والخطاب أو في شخوص ثقيلة كامنة في مفاصل الدولة ومؤسساتها.