سامي براهم
قيل في أصل تكوينها ومبدئها أنّها كانت بعد افتراق آدم وحوّاء عند نزولهما من الجنّة حيث كان مهبط آدم في الهند أو في العراق وكان مهبط حوّاء في اليمن أو في جدّة، واتّقد حنين الحبيبين وتاق كلّ منهما إلى الآخر وبرّح بهما الشّوق وكاد يفنيهما النّوى وطفق كلّ منهما يبحث عن أليفه بهدي من الله ونور الحبّ الذي أودعه في قلبيهما… وبعد سنيّ التّيه والشّوق والجوى التقيا وتعارفا من جديد في موضع بعرفات وكان لقاء عليه جمال لو قُسِم على جميع أهل المحبّة من المخلوقات لكفاهم و زيادة.
وقيل في ما قيل كانت حوّاء أمُّنا ترتجف من مهابة اللقيا وكان الدّمع ينساب من عينيها فأراد آدم أبُونا أن يهدّئ من روعها فكفكف من دمعها بلسانه اللزج العَطِر الرّطب حتّى إذا بلغ موضع القبلة وجدا عندها متعة منعشة فالتذّا بها وذابا معها في عوالم السّحر الحلال… فكانت أوّل قبلة فوق الأرض بحمولتها العاطفيّة والإيروتيكيّة بعد سنوات طويلة من الفراق والهجران وجهد الانتظار.
وبقيت القبلة على مرّ الأزمان بريد العشق وبغية العشّاق وبابا للأنس والوصال…
هي سلوك حميميّ أقرب إلى البوح والإفضاء يجتهد أهل العشق أن تكون بعيدة عن أعين الرّقباء والعذّال والمتطفّلين والمتلصّصين وهاتكي الأستار… ويعدُّها أهل النّجوى والتّقوى والفَنَن من مقدّمات السّكن بين أهل المودّة والرّحمة والمِنَن ويوصون بها لولوج عوالم المتعة الزّلال…
وقد ورد في ما يُروَى في شأنها من وصايا النبيّ الأكرَم :
“اجعلوا بينكم وبينهنّ رســــــــولاً، قالوا وما الرّسول، قال: القُبلــــــــــة”
وقد ورد في شأنها أشعار وأساطير وقصص عالمي، ولكنّها حافظت على طابعها الحميمي الشّخصي مقابل السّلوك الاجتماعي المدني الذي يتبادله النّاس في الفضاءات العامّة للمدينة بقصد التّواصل والمجاملة وإشاعة السّلم بينهم… ورغم تداخل الفضاءات وزحف بعضها على بعض بمقتضى فوضى تجريبات الحداثة والتّحديث والنّزعة الفردانيّة والبوهيميّة والبهيميّة يبقى للقبلة ألقها الخاصّ وروائحها ومذاقاتها وأنفاسها ووشوشاتها وهمسات البوح الشّفيفة التي ترافقها وأسرارها الباهرة وعوالمها الإيروتيكيّة الممتعة التي تتبدّد بمجرّد أن تصبح شعارا أو لافتة للمناكفة والإشهار أو سلوكا للابتذال يفرغها من كلّ لطائفها ومحامِلها ودفقها…
يكفيها جمالا وجلالا وبهاء ما قال فيها الشّاعر عنترة العبسي تشبيها وكناية وهو في قلب الهيجاء يكرّ في المَعمَعة ليكون حرّا… فكانت القبلة ثمنها الحريّة:
وَلَقَد ذَكَرتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ – مِنّي وبِيضُ الهِندِ تَقطُرُ مِن دَمي
فَوَدَدتُ تَقبيلَ السُيوفِ لأَنَّها – لَمَعَت كَبارِقِ ثَغــــــــــرِكِ المُتَبَسِّمِ
دفاعا عن الرّسولة ضدّ المتحرّشين بها

سامي براهم