عبد اللطيف علوي
سمعت بعض حديثهم خارج “الباقة”، قال أحدهم يخاطب زميله:
– لا تغفل عنه لحظة واحدة، هؤلاء الإرهابيّون بإمكانك أن تتوقّع منهم أيّ شيء !
أجابه الآخر:
– لديه سوابق مع الإخوانجيّة، لكنّه لا يبدو من مظهره أنّه إرهابيّ… اطلب المركز واطلب منهم أن يرسلوا السّيّارة.
ردّ ثالثهم:
– إرهابيّ أو إخوانجيّ! ما الفرق؟ كلاهما واحد.
شعرت بنصل السّكّين يزحف بطيئا في صدري باردا مثلجا كصقيع تلك اللّيلة… وعاد بي وجعي إلى المرّة الوحيدة في حياتي، الّتي آذيت فيها مخلوقا، وشعرت فيها أنّني ربّما كان يمكن أن تطلق عليّ تلك الصّفة اللّعينة، فلا أعترض ولا أحتجّ…
كنّا أيّامها قد قرأنا نصّ “الصّيّاد المنكود الحظّ”، في كتاب السّنة الخامسة، وكم وجدته يشبهني لولا بعض التّفاصيل الصّغيرة…
أنا صيّاد صغير فاشل، كلّ أندادي يصطادون أنواعا كثيرة من العصافير، الزّرزور والحساسين والقبّرات والتّرودة السّمينة وخاصّة خاصّة أحمر الصّدر، ذلك الطّائر الصّغير الهشّ، الفائق الجمال، ذا الذّيل الرّفّاف بخفّة عجيبة والزقزقة الشّجيّة القاسية والعينين الوسيعتين…
كان فريسة سهلة حتّى لأغبى الصّيّادين، وأقلّهم حظّا… لكنّني مع ذلك لم أكن أنجح أبدا في اصطياده… حتّى كان ذلك اليوم…
كانت السّماء داكنة غائمة، مثل مرآة مضبّبة، والمطر يهطل منذ الصّباح بكسل وديع فيمسح على خذّ الأرض بلطف ولا يجرحه، ويلثم أوراق الشّجر الغافي، والعصافير المقرورة تجاهد كي تجد القوت والدّفء والأمان… وكنّا ثلاثة… ننصب الفخاخ في أجنّة الزّيتون ونعود إلى أوكارنا نتدفّأ قليلا ونراقب المكان من بعيد، فإذا رأينا سربا يحطّ هناك حيث وضعنا ألغامنا الصّغيرة، نقطع الأنفاس وننتظر قليلا حتّى ينفضّ فجأة في جلبة، ندرك حينها أنّ فخّا قد انطبق… ونسرع نحو غنيمتنا، فنجدها تتخبّط يائسة بين فكّي “المنداف”…
يومها كان صيدي الأوّل…
حمراء الصّدر العجيبة، عصفورة صغيرة في حجم قبضة اليد الواحدة، انتزعتها برفق من الفخّ وأنا لا أكاد أصدّق نفسي… أخيرا نجحت في اصطياد شيء مّا، وليكن أحمر الصّدر، المهمّ أنّ سيف النّحس قد انكسر، والقادم لا شكّ أنّه سيكون أفضل…
حملتها في يدي… كانت مقرورة جدّا ومتألّمة ومستسلمة بالكامل، أحد جناحيها مكسور… لا تتخبّط ولا تئنّ، ترتعش فقط في يدي، وعيناها خائفتان مذعورتان تتردّدان في كلّ ما حولها بلا توقّف وبلا رجاء…
شعرت بقلبها الصّغير يهتزّ ويختلج في صدرها يكاد يقفز خارج أضلعها، يكاد يسقط في كفّي… وشعرت بضخّ الدماء السّاخنة في ذلك الجسم الهزيل… انقبضت روحي، وذاب قلبي ووجدت نفسي أقرّبها إلى صدري وأدفّئها بصداري الصّوفيّ، وأعود بها إلى البيت حزينا…
لم يكن الأمر يستحقّ أبدا تلك النّشوة العابرة، صارت تلك المخلوقة الضّعيفة تجلدني بسياط عينيها كلّما نظرت في وجهها، صدرها الأحمر البديع وريشها النّاعم وذيلها الرّفّاف… كلّها لم تعد تعني لي شيئا، صار همّي الوحيد أن أكفّر عن ذلك الذّنب الفظيع…
كنت أتمنى أن أطلق سراحها وأتحرّر منها، لكنّ جناحها كان مكسورا، سألت “داده” كيف أعالجها؟ فنصحتني بأن أدهن جناحها بزيت الزّيتون وقالت إنّه سوف يشفى… ارتحت كثيرا… داده بارعة في معالجة كلّ شيء، وقد جبّرت كسور بقرة ضخمة وشفيت، فكيف لا تنجح مع عصفور صغير كهذا؟
عالجتها بقلب ينزف إثما وندما، ثمّ دخلت إلى البيت، ووضعتها تحت غربال في ما يشبه عشّا طوّعته من الصّوف، وأخفيت الغربال تحت “السّدّة” كي أبعدها عن كلّ أذى، وانصرفت لشأن في الحقول…
في المساء عدت راكضا، وكان أوّل ما فعلته أن تفقّدت العصفورة الحزينة تحت الغربال، فلم أجد سوى بقايا من ريشاتها الحمراء…
لم أتعشّ ليلتها، ونمت وفي القلب جنازة…
لم أصطد بعدها أبدا، ولم أشارك رفاقي متعتهم في قنص الأرواح، أرواح صغيرة ناعمة سابحة في ملكوت الجمال مثل فقّاعات من النّور، وظللت أشهرا وسنوات، وربّما إلى حدّ الآن، كلّما تذكّرت تلك الحادثة، أنظر إلى يدي، فأراها قد اصطبغت بلون الدّم… دم تلك المخلوقة الرّائعة… أشعر أنّه كان بإمكاني أن أكون ملاكا قبل فوات الأوان، لكنّني ضيّعت الفرصة إلى الأبد.
بعد ما يقارب نصف السّاعة داخل “الباقة”، أقبلت سيّارة الشّرطة ونقلوني إلى مركز برج العامري…
أجلسوني على مقعد خشبيّ في كولوار ضيّق تصفّر فيه ريح باردة صرصر، وجلس أحدهم في المكتب المقابل يسألني:
– هل أنت خوانجي؟
#عبد_اللطيف_علوي
من رواية: #إخوانجي_في_بلد_الفرح_الدّائم
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.