عائد من كرُدستان: إصرار أهل الدّار وغضَب الجِوار
سليم الحكيمي
بعد حضورنا ممثّلا عن صحيفة “الراي العام” في مؤتمر دولي.
صوّت اقليم كردستان بنسبة فاقت 72 % متجاوزا الفدرالية الاتحادية التي اقرّها الدستور العراقي سنة 2005، واتفاقية الحكم الذاتي الممضاة سنة 1970. بينما تتالت التهديدات بالعقوبات من حكومة بغداد التي رات فيما جرى غير دستوري ودعت الى ضرورة الانظباط لنقطة وردت في ديباجة الدستور العراقي تحوي: “الالتزام بهذا الدستور هو ضمان العراق موحدة”. فردت كردستان بانه وقع انتهاك 50 مادة منه دون رد من حكومة بغداد.
المظلمة الكُردية
تقوم المقاربة الكردية ان حق تقرير المصير طبيعي ومن باب ازدواجية المعايير ان يقع قبوله لشعب ورفضه لاخر. فقد تغيرت الحدود 643 مرة في كل من اوروبا بعد مؤتمر للصّلح سنة 1648 ولا يمكن للاكراد ان يظلوا اسرى تقسيمات جغرافية قديمة وُعدوا فيها زمن الدولة العثمانية بتاسيس دولة بعد استفتاء 1920. في حين تكونت دول خليجية اقل سكانا مثل قطر والامارات والبحرين والكويت… والكرد ليسوا في الماضي “العصاة” كما يُروى في ادبيات السلطة، وليسوا في الحاضر معنيين بدولة العراق الطائفية منزوعة السيادة من امريكا وايران منذ سنة 2003. إذ يرى المُلاّ بختيار، مسؤول المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني ومشرف لجنة الاستفتاء “ان الكرد قد جرّبوا كل الحكومات في المنطقة لمدة 96 عاما، منها 37 من الحكومة الملكية، و5 سنوات مع حكومة عبد الكريم قاسم، وسنة 1968 بانقلاب البعثيين الذي ترك حكمهم تدميرا عمرانيا وهشيما انسانيا، كان فيه القمع والابادة الجماعية الكيمياوي لحلبجة، فقتل 5500 كردي سنة 1988، تلتها ابادة من الجيش في “الانفال” سنة 1991. ليصدر بعدها قرار من مجلس الامن عدد 668 بتحديد منطقة امنة للكرد الذين يتوزعون اشتاتا: 6 ملايين في العراق و2 ملايين في سوريا و12 مليون بتركيا و10 ملايين بايران. توترت الاجواء مع بغداد التي قطعت الرواتب وخفضت الميزانية وتجاهلت مشكلة النفط والغاز وتناست تنفيذ المادة 140 من الدستور من خلال منع الاقليم من حصته القانونية في الميزانية وانتهت المواجهة بقرار اقالة ببغداد محافظ كركوك الدكتور “نجم الدين كريم” من منصبه ولكن اصر الاقليم على الرفض.
رغم ان اقليم كردستان هو الوحيد الذي يتمتع بسلطة حكم ذاتي في المنطقة، تتفق احزاب كردية، على ضرورة الاستفتاء. فالانفصال ورومانسية الدولة حلم هدهد أهداب الاجيال، توارثت عبر عقود قصص قمع الوحشي الحقيقية على الاجداد. وبين محاولة توظيف الاستفتاء للضغط على حكومة بغداد لتحسين شروط التفاوض معها حول مسائل عالقة، وحقيقة الرغبة في الانفصال، تعاقد الجميع: الحزب الديمقراطي الكوردستاني لمسعود البارزاني علماني الطراز الذي يضم قيادات شيوعية، والاتحاد الوطني الكوردستاني لجلال الطالباني اليساري العلماني المنافس الايديولوجي الصريح للتيار الاسلامي، والاتحاد الإسلامي الكوردستاني، اكبر الجماعات الاسلامية بزعامة “صلاح الدين محمد بهاء الدين” المتحفز منذ تأسيسه لتاسيس دولة، فهو عضو في اللجنة العليا للاستفتاء والمفوضية المشرفة عليه. وكان قد شارك في مجلس الحكم العراقي أيام “بول بريمر”. لم يستطع مجاراة تركيا رغم انه يعد من حلفائها، ولم يستطع الوقوف ضد توجه شعبي عارم للحفاظ على ما تراه تركيا مساسا بامنها القومي، البلد الوحيد في المنطقة التي يعيش فيها الأكراد بحرية مواطنين كاملي الحقوق ممثلين بـ 60 نائبا في البرلمان.
استنفار دولي واقليمي
رغم اقتراح فرنسي بانشاء نظام كونفدرالي يمنح الاقليم سلطات اوسع وحرية بيع نفط كركوك، على الرفض، اجمعت اوروبا والامم المتحدة وامريكا التي لم يقسم يوما منطقة نفطية، إذ من يحسم امر التقسيم هي الشركات العملاقة. بينما دعمت الاستفتاء دول خليجية كالامارات نكاية في تركيا وترضية لاسرائيل المتحمسة للانفصال وليس تعاطفا مع الكرد، ولكن الحدث كان اكثر وقعا على دول الجوار المباشرة المعنية التي تضم القوميات الكردية وخاصة ايران وتركيا في صراع استراتيجيات كبرى في المنطقة. ترى تركيا ان انفصال الاقليم سيقوي شوكة حزب الاتحاد الديمقراطي، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تحارب تركيا نزعاته الارهابية والانفصالية منذ سنوات. وتخشى انقرة كما ايران الهدف النهائي للانفصال بإقامة دولة مستقلة تغطي فيها الجغرافيا كل شَتات الديمغرافيا الكردية في الأراضي التركية والإيرانية والعراقية والسورية. توتّرت علاقتها مع البرزاني الذي يعد حليفها، الذي تنقَّل بجواز سفر تركي لسنوات.. في المقابل تدعم اسرائيل الانفصال بقوة، فقد كتب الصحفي تسفي برئيل، في صحيفة هآرتس “ان الاستفتاء هو رسالة إسرائيلية تحمل أكثر من مجرد الدعم القيمي للأكراد. مادامت تركيا تدعم حماس، ولا تراها منظمة إرهابية، فستتلقى ضربة قوية في داخلها، وأن من يؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة، يستعد لأن تشجيع إسرائيل إقامة دولة كردية مستقلة”.
ولكن ما وجب الاقرار به :
1. البطش الذي ناله الكرد وفضلهم على الامة حضارة وعمارة. فقد عكس الاستفتاء اخفاق الدولة الوطنية القاهرة للاعراق والقوميات مقابل نجاح الدّولة-الامّة في الغرب الصاهرة لها. فالحلم الكردي الحقيقي بتاسيس دولة تقاطع مع احلام البرزاني الذي يصدر المشاكل الداخلية المتعلقة برئاسته لتعديل وضعه، حسب مراقبين، بالاضافة الى استكشافات حديثة تبين وجود كميات نفط وغاز في منطقة كِفري وكرْيمان المحاذية لاقليم كركوك، وحيتان نفط بغداد ليست اقل نَهما من حيتان كردستان التي يمكن ان تتحمل مسؤولية تقسيم العراق.
2. لا يمكن ان تقوم دولة ناشئة دون موافقة دول الجوار. وقيام اسرئيل في محيط رافض جعلها جسما غريبا في توجس دائم. فليس الحل في بناء الانفصال بل في بناء شروط استمراره. فالفورة القومية في يوغسلافيا التي جاء بها “سلوبودان ميلوزفتش” المتعصب انتهت بمطالبة جمهوريات يوغسلافيا السبعة بحق تقرير مصيرها بعد ان حاول ان يهمين على الفدرالية وبقية الجمهوريات واحتل اجزاء من البوسنة وكرواتيا. ولكن بعد ان استقلت وانقشع غبار الحرب، وجدت نفسها امام صعوبات اقتصادية واستحقاقات دولة لا تملك الموراد الكافية للايفاء بها. فلم تستطع “المونتنغرو” ان تمتلك مقومات الدولة بـ 1.5 مليون ساكن، ومقدونيا بـ 2 مليون ساكن. وتجربة تقسيم جنوب السودان سنة 2005 لم تبين وجاهة القرار، وكذلك دولة تيمور الشرقية الناشئة سنة 2002 التي ترسف في المرتبة 162 في معدل التنمية عالميا.
3. حق تقرير المصير ليس مبدأ تجريديا صرفا بل محكوم بالعامل السياسي الحاسم، وقيام الدول ينشا عن رغبة دولية في تركيزها، وهو ما تم مع دولة تيمور الشرقية بـ 300 الف مسيحي فقط بعد ان اُتنزعت من اندونيسيا، وكذلك شُُجع السوادن.
4. قد تلجا الحكومة العراقية بالاتفاق مع الحكومة الايرانية الى احداث شرخ في الجسم الكردستاني بمنح حصة الاقلي من الميزانية 17% الى محافظة السليمانية فقط. ويمكن للنظام الفدرالي الحقيقي والدولة العادلة على اسس جديدة ومواطنة حقيقية ان تجنّب صراع المركز والاطراف كما تجنبت دولة كنَدا انفصال اقليم “الكيباك” عنها، و”توزع بالسويّة وتعدل بين الرعيّة”. والكرد أحد أهم مقومات المنطقة العربية ولكن الحصول على هذه الحقوق في إطار الأمة أفضل من تحقيقها بمزيد من التجزئة التي تشرّع الابواب للانفصال لكل القوميات المشكلّة لفسيفساء المنطقة.
صحيفة الراي العام (التونسية)