منجي باكير
من المسلّم به أنّ العهدين السّابقين من الدكتاتوريّة أسّسا لمنظومة خبيثة ومرعبة لمحاربة الإسلام والقائمين عليه، حيث اجتُثّت أكبر منارة علميّة بإلغاء جامع الزيتونة وفروعه وألغيت الأوقاف، وشدّدت الرّقابة حدّ التجريم على المؤلّفات والمراجع التوسّعيّة للعلوم الشرعيّة، وعمل الإعلام وسدنة الفرنكوفونيّة بتشجيع الحلقتين الدكتاتوريتين وتحت إمرتهما لتغريب المجتمع والتّرويج للعادات والسلوكات والعقائد الغربيّة الإستعمارية ووُضع الحِجْر على أهل العلم والدّراية والدّعوة لدين اللّه بل سعيا إلى تعقّب ومحاكمة كلّ من حاول الخروج من دوائرهما واجتياز ما رسماه من مفاهيم إقصائيّة وتجفيفيّة،،، كما فُرض في بدايات الإستقلال مستشارا فرنسيّا على كتابة الدولة للتعليم -آنذاك- الذي كانت له البصمة الباقية نتائجنا إلى يومنا هذا، هذا المستشار الذي أقصى اللغة العربيّة في تدريس العلوم وهمّش الدين والهويّة وعبث بالمقرّرات الدراسيّة وكذلك بقي على هذا العهد الفاسد من تواتر بعده في وزارة التعليم والذين كانوا قصدا من التغريبيين الإستئصاليين الذين أصرّوا على علمنة المناهج وفصلها عن حاضنتي العروبة والإسلام…
حتّى بدا المجتمع التونسي بعد هذه العقود العجفاء، مجتمعا متصحّرا، هشّ العقيدة وخاوي العلم مليئا بالترّهات يعمّه الجهل بحقيقة الدين وجوهره، لا يتعدّى في أحسن الحالات أن يعقل بعض صفوة عوامّه شيئا من معلوم العبادات… أمّا البعض الآخر ممّن تحرّكت فيهم حميّتهم على دينهم فنشدوا الخلاص من ربقة التعتيم والتجهيل ووصاية الحاكم على ما يعتنقونه وما يؤمنون به لتفصيله على مزاجه وعلى نمط ما توسوس له به نزعاته اللاّئيكيّة وإملاءات مرجعيّاته الفاسدة. مال هذا البعض ليبحث عن ما يملأ له هذا النّقص، فكان له ذلك لكن بلا مرجعيّات ولا توثيقات ولا مناهج ولا توجيه، بل بمجهودات فرديّة وتوغل مفرط في الدّين، فاختلطت الأمور وتشابهت المقاصد وتعدّدت التنظيرات بل اكتست في كثير من الأحايين عند البعض طابع التشدّد والتنطّع لتلامس سوء الفهم وبالتالي ضلال الوعي والإدراك،،،
ممّا أدّى إلى تواجد ظاهرة الإنتماء إلى الجماعات على مختلف مشاربها والتحاق بعض الشّباب إلى بؤر القتال والمواطن السّاخنة العالميّة في اجتهادات واستنباطات شتّى، ثمّ عاودت الرّجوع محليّا لتفرز تجاربها وتسقطها على واقع البلاد مع تجنيد من تستهويهم ذات الأفكار والتوجّهات والإجتهادات،،،
شقّ آخر من الشّباب اليافع اختلطت عليه الأمور و غُمّ عليه لفظ كلّ اساليب التربيّة ونفض يديه من خواء مقرّرات التعليم فاتّجه بغير دليل إلى تجربة الشذوذات الفكريّة والجسديّة ومنهم من انخرط في النزغات الشيطانيّة واتّبع طرق الفساد والإفساد ختّى تغلغل ولم يعرف طريق الرّجعة فدفعته نقمته أن يستقطب غيره ليزجّ به في نفس متاهت ضياعه طلبا للأنس والتطبيع…
نقول أنّ النّاشئة لابدّ لها أن تتصالح مع دينها وأن تأخذ تعاليمه على الصّفة الأكاديميّة حتّى تتكوّن في مجال العلوم الدينيّة وأصولها وفروعها ومقاصدها تحت إشراف علمي وأن تتلقّى هذه العلوم على أيادي أساتذة اعتداليين مشهود لهم بالخبرة والإختصاص والكفاءة الأكاديميّة،،، ولهذا فإنّه إضافة إلى الضرورة القائمة والملحّة لإصلاح البرامج التعليميّة العامّة وتحيينها، ولم لا إدراج العلوم الشرعيّة كشعبة أساسيّة قائمة بذاتها تضاهي باقي الشعب التي تتناول علوم الحياة وتكنولوجياتها وأن تُدرج لها المناهج وتوفّر لها المراجع والمتطلّبات، حتّى يكون لها تخرّجها وشهائدها التي تساهم لاحقا في تنوير المجتمع وتنقية مفاهيمه واستئصال العنف والتكفير وما شابه وتنقذ ناشئتنا من نقيضي الدّواعش والفواحش،،،
هذا الحلّ هو أهمّ وأوكد الحلول أمام الحكومة ومن استقام من المجتمع المدني ممّن يريدون -بحقّ- خيرا وصلاحا لهذا الوطن العزيز خصوصا بعد أن بيّنت الدراسات والمعاينات والمتابعات عقم المناهج الدراسيّة المعلمنة والإستئصاليّة والتي تدفع نحو إقصاء الدّين والهويّة وفصلها عن باقي المقرّرات العلميّة والتكنولوجيّة والصّناعيّة…