كمال الشارني
بعد أكثر من ربع قرن من المعاناة، توصلت أمي أخيرا إلى من يفهم سر الضجيج الذي تسمعه في قلبها، كان ذلك بفضل أطباء المستشفى العسكري الذين سلمتهم بكل ثقة قلبها لكي يفتحوه، بذكرياته وعذاباته وأحلامه، ويغيروا صماماته ثم يعيدوه إليها، لكي تستمر تلك القصة الإنسانية العظيمة للأمومة، لكي نتم ما بقي من ذلك الإصرار الإنساني على البقاء، منذ أن تنازلت عن حقها في أمومتها لي وأنا في السادسة من العمر بعيدا جدا عنها، لكي أدرس، مزودا بمدخراتها السرية: “ثمانية وستون مليما”، ثلاثة عشرينات ودورو ومليمين ومليم، كان ذلك ثروة طفولية في 1971، كان عليها أن تخترع أيضا كل بداية أسبوع خدعا جديدة لتقنعني بالذهاب إلى المدرسة البعيدة العدائية، إنما لم نكبر على يدها كما قال محمود درويش.
أذهلها أطباء القلب والجراحون والممرضون وحتى العمال في المستشفى العسكري بأخلاقهم وانضباطهم وكفاءتهم، حتى كنا نتساءل عما إذا كنا حقا في مؤسسة صحية تونسية عمومية، أم أنهم يجاملوننا ويفرطون في العناية بأمي وبنا، مقابل فاتورة خرافية، كما في المصحات الخاصة لكننا لم ندفع مليما واحدا لقاء إصلاح ثقوب قلب أمي وإبقاء ذكرياتها معنا حية، خلف ذلك لنا سؤالا مرا: “لماذا تعجز وزارة الصحة عن تقليد المستشفى العسكري ؟”، أعرف أنه صعب جدا أن تتحسن المستشفيات العمومية، أمي كانت تقول عنهم: “إلي تكلمه، توحل فيه”، كان يكفي أن تذهب إلى مستشفى الكاف لكي تعود أكثر مرضا، بين الحياة والموت.
على مدى أكثر من ربع قرن فشل أطباء المستشفيات العمومية في تقدير مرضها: فشل صمامات القلب، لذلك كانت تسمع ضجيجا في قلبها يشبه صوت حنفية معطبة، وأنا كنت أظن أنه ثقب في القلب بسبب أحزان الأمومة والغياب، آخر طبيب قلب في مستشفى الكاف كان يعطيها كل مرة، وهي تموت حقا من الألم في الرواق، موعدا بثمانية أشهر، دون أن يكلف نفسه حتى عناء النظر إليها، بعد أن نجلبها إليه بضغط دم 26 مع انفجار عروق الأنف والحلق، أكثر من ربع قرن من الاحتقار والازدراء والتجاهل والعلاجات الخاطئة السريعة التي وصلت حد أدوية الهلوسة والتخدير، دون أن أتحدث عن مصائب أخرى، “والله حرام عليهم ما فعلوه بها وبنا طيلة أكثر من ربع قرن”، جربنا مرارا الأطباء الخواص دون أن يكشف أحد منهم سر مرضها السهل، ثمة فيروس ضرب مهنة الطب في تونس.
أكتب هذا، بعد أن غادرت أمي المستشفى مكرمة، بعملية ناجحة تماما، حيث نال قلبها إعجاب الجراحين بعد أن قاوم ببسالة رغم تقدمها في السن مدفوعا برغبتها التاريخية التي لا تقاوم في القيام بمهنتها الجميلة في الإشراف علينا وتفقدنا، أبناؤها وأحفادها وأخواتها وإخوتها وأبنائهم وأحفادهم، وبدا أن لديها من التصميم لرؤية أبناء أحفادها، ستكون خالصة مع الله إذا جمعتنا يوما حولها بهذا القلب الذين يدين ببقائه وسعادتنا للمستشفى العسكري بعد أن كاد أطباء المستشفيات العمومية أن يقتله.
أتساءل: ماهي عبارات الشكر والعرفان بالجميل التي تليق بمن في المستشفى العسكري، حتى ذلك المسؤول الصارم الذي كاد يطردني بسبب عقب سيجارة في مدخل المستشفى ؟ وأسأل عما إذا كان من الضروري وضع كل المؤسسات الصحية في تونس تحت حكم الجيش، حتى تقترب من كفاءة وانضباط وأخلاق من يشتغلون في المستشفى العسكري.
سر الضجيج في قلب أمي: هل عجزت وزارة الصحة عن تقليد المستشفى العسكري ؟

كمال الشارني