زهير إسماعيل
تقدير:
نعيش على النتائج السياسيّة لانتخابات 2014 المضروبة، وقد أفرزت، مثلما أشرنا في حينه، وضعا مزدوجا في مستوى الحكم وفي مستوى المعارضة. حيث نجد نظامين في الدولة ومعارضتين في المجتمع.
1. في مستوى الحكم: نظامان متجاوران مختلفان رغم تقاطعهما: نظام الحزب الواحد سليل حزب الدستور ويمثله حزب النداء. ونظام يحمل وعود ديمقراطيّة، أو هو أحد شروطها، تمثّله النهضة، رغم ما تعيشه من أزمة بنيوية تتمثل في عجزها عن التحرر من الخطاب الشريعي (وليس من الصفة الإسلامية: يمكن أن تكون إسلامية مضادّة للخطاب الشريعي: هذا الكلام لا يفهمه الاستئصاليون من الجهتين).
2. في مستوى المعارضة: معارضتان: وظيفيّة تمثّلها الجبهة، ولا تحتاج هذه الوظيفيّة إلى كثير أدلّة إذ تكفي الإشارة إلى مشاركتها في اعتصام الروز وجبهة الإنقاذ بقيادة السبسي لضرب مسار التأسيس في بدايته، وقطع الطريق في الانتخابات الرئاسية بالتصويت لفائدة السبسي والتحريض على الرئيس المنصف المرزوقي.
والوظيفيّة في الجبهة حالة تمتدّ إلى مرحلة الاستبداد بالتحالف مع بن علي من قبل مكونات رئيسية فيها، ومنها الوطد (بوليس بن علي)، ومن كانوا في حماية “السيستام الغاضب” (كمال لطيّف حامي حمّة) هروبا من “السيستام الضارب” (بن علي قامع حمّة).
ومعارضة عضويّة كانت نواتها الصلبة حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة الذي أسّس لـ”المقاومة السياسيّة” بديلا عن “المعارضة السياسيّة”، في مرحلة الاستبداد. وبعد الثورة، كانت المحاولات متوتّرة بين لحظتين: لحظة “ديمقراطيّة اجتماعيّة” (الجمهوري، التيار) وهي امتداد للتيار الحقوقي المطالب بالحريات منذ السبعينيات والذي لم يخرج، بعد الثورة، عن “المعارضة الاجتماعيّة”، ولحظة “مواطنيّة اجتماعيّة” (الحراك)، مازالت في حال كمون، طرحت على نفسها بالاعتماد على شخصيّٰة المؤسس تطوير “المقاومة السياسيّة” إلى “مقاومة اجتماعيّة”، وهو ما كنا نسمّيه تيار نضال اجتماعي. وما تزال هذه التجربة متوترة بين اللحظتين. ويبدو أنّ ما عرفته في الأشهر الماضية وما يدور في محيطها يجذبها أكثر إلى “الديمقراطية الاجتماعيّة”. وهي منزلة وسطى بين الوظيفية والعضويّة.
3. تحولات المشهد السياسي
ما هي السيناريوهات الممكنة في هذا المشهد السياسي المزدوج في مستوى الحكم وفي مستوى المعارضة.
كان هناك احتمالان لا ثالث لهما:
– استيعاب النهضة للنداء، وإعادة ترتيبها العلاقة بالسيستام فتصبح هي النظام، واستيعاب المعارضة الوظيفية من قبل المعارضة العضوية، والتفرّغ لمصارعة النظام الجديد (نواته النهضة) وأساسه الديمقراطيّة التمثيليّة بتطويرها إلى ديمقراطيّة تشاركيّة (صراع على أرضية الدستور والحكم المحلي).
– استيعاب النداء للنهضة ومن ورائه السيستام بمستوياته المختلفة وركوبها، واستيعاب المعارضة الوظيفيّة للمعارضة العضويّة وجرها إلى أجندتها الخاصة.
الازدواجيّة في الحكم وفي المعارضة جعلت التصويب والغايات السياسيّة مختلفة ومن ثم متقاطعة: فحين تصوّب المعارضة الوظيفيّة سهامها إلى “منظومة الحكم” فإنّها تعني النهضة أساسا (لاحظوا التركيز على نواب النهضة وخيانتهم وغض الطرف إلى حدّ كبير عن النداء، هناك حديث عن وجود تنسيق، ولم نلاحظ اشتباكا ميدانيا بين نواب الجبهة ونواب النداء)، في حين لما تصوّب المعارضة العضويّة سهامها إلى منظومة الحكم فإنها كانت تعني النداء أساسا (لاحظ اشتباك نائب الحراك مع نائب النداء)، وتمثّل سامية عبو حالة خاصّٰة فإنّ هويتها “الاجتماعيّة المعارضة” المعلنة لم تنجح في كبت عمقها “الاجتماعي المقاوم” الكامن (لوجسيال المؤتمر).
ولكن ما نشهده منذ شهور هو احتداد الأزمة بين النهضة باعتبارها أحد مكونات المنظومة الحاكمة والمعارضة العضويّة، وكانت الشهادة على العصر من بين مظاهر هذه الأزمة، رغم ما صاحب الشهادة من فضح لأردأ رموز السيستام ومحاولات الانقلاب على العملية التأسيسية. وفي الاتجاه المعاكس لم تدّخر النهضة جهدا في مهاجمة المعارضة العضوية وتتفيهها وتشويهها.
لقد كان قفز النهضة في أحضان النداء، فرصة نادرة لكي يتوسع مكوّن المعارضة العضويّة ويشرع في بناء التوازن السياسي الذي تحتاجه الديمقراطية وتفرضه حالة الفراغ، لأن اللقاء مع النهضة، في الحكم أو في المعارضة، سيجرّ المعارضة العضوية إلى معارك هووية هي ليست طرفا فيها مثلما حدث في مرحلة الترويكا، ويعمد السيستام وأذنابه إلى تفجير هذه المعارك كلما أحسّ بأنّ المشهد السياسي يتجه إلى توازنات عقلانية وديمقراطيّة قد تثبت.
التحاق النهضة بالنداء، كان فرصة لبناء شيء صلب، ولكن الفرصة أُهدرت، ولم تكن البداية موفّقة رغم حسن النوايا.
الاتجاه الغالب الذي يفرض نفسه هو: استيعاب النداء للنهضة، والمقاومة الوظيفية للمقاومة العضويّة (تأثّر الحراك والتيار بأجندة الجبهة). وهكذا فإنّ المشهد العام موجّه في المعارضة بمزاج الجبهة وموجّه بالحكم بمزاج النداء. والنداء والجبهة غير منفصلين عن السيستام، رغم ما يلاحظ من تباينات علاقتهما به، ولا عبرة بـ”الجمل الثوريّة”، هذه الأيّام. وهو ما يجعل المشهد العام يميل يمينا (بلقاء اليمين الماركسي واليسار التجمعي، وكلاهما يعتبر النهضة والمرزوقي عدوه الأول). ولا أفق لهذا اليمين الجديد القديم إلاّ الاستبداد (الجبهة والتجمع يتقاطعان في ثقافة الحزب الواحد).
النهضة يتواصل استيعابها، في ظلّ تواصل خساراتها الأخلاقيّة والسياسيّة الفادحة، وفي ذلك إشارة إلى مرحلة متقدٰمة من تصفية الإسلام السياسي في تونس. وهي رغبة عامة (أوروبّا، الخليج المتصهين، ترامب وجماعته). وهذا الوضع سيجعل من المعارضة العضويّة عنوانا صغيرا في معركة الكبار، وهو ما يستدعي تأسيسا جديدا لها بأفق مواطني اجتماعي غير متردد، مجاوزا لهويات الانتظام الحزبي الفاشلة. ومنتبها إلى أن “السياسي” يبحث له حثيثا عن مجال غير تقليدي وانتظام أفقي فاعل.
هذا المزاج العام الذي تميل فيه الكفة النداء في الحكم والجبهة في المعارضة إنّما هو من فعل السيستام واشتغاله على متغيرات المشهد جميعا، وفي ظلّ هذا المزاج نحذّر من جرف بعض التعبيرات الشبابية الواعية (مانيش مسامح) إلى “المربٰع الوظيفي” من بوّابة الإيديولوجيا وعناوينها الغلاّبة.
السيستام ينجح، إلى حدّ الآن، في إعادة إنتاج المشهد السياسي بالكيفيّة التي تؤبّد المصالح القديمة الجديدة، وتجعل البلاد متوترة بين أفقين: ديمقراطيّة فاسدة، وديكتاتورية جائرة.
يسار الدولة لا يختلف عن يمينها، بل هما اليوم يؤسسان لهذا اليمين الهجين، ويبقى “يسار التاريخ” إمكانا ووعدا في “سرديّة الكرامة” الماضية إلى غاياتها.