الأحد 29 يونيو 2025

واقعة مجلس النواب… فرز جديد بطعم اللامنطق أو الشيزوفرينيا الجماعية

محمد القرماسي

تلونت صفحات التواصل الاجتماعي بألوان الطيف الطبيعي معبرة عن تمايز للانفعالات بالطيف السياسي مع اختلاف جوهري، فالتمايز بين ألوان الطبيعة واضح وألوانه متكاملة متراصة كما تبدو في قوس قزح… ولكنه تمايز مقرف مخيف منذر بالخراب في الطيف السياسي التونسي. ولذلك وجب تمييز المواقف وتبيان الاختلاف الذي يزداد صعوبة بتشابك التوجهات، وارتفاع منسوب التشويش الى درجة اختلط الرافضون والموافقون من جميع الاتجاهات، وأعيد توزيع الأوراق بما لا ينسجم مع منطق ولا مصالح ولا معقولية أصلا… فما هو العيب الحقيقي في الممارسة السياسية التونسية كما ظهرت في واقعة مجلس نواب الشعب ومصادقته على قانون المصالحة وربما يسعفنا الحظ لاستكمال هيئة الانتخابات ؟

مجلس النواب
مجلس النواب

أولا: ما حصل في مجلس نواب الشعب من تشاجر، وتعطل للحوار، ومواصلة للنقاش، ومصادقة… وكل ما شهده المجتمع التونسي في تلك الليلة… ليس بدعا في المجالس النيابية ولا هو مما يخجل أبدا فطالما شهدت البرلمانات حتى التشابك بالأيدي. وهذا، بلا مزايدات، هو ممارسة ديمقراطية تأخذ بعين الاعتبار أن النواب بشر ولهم عواطف وانفعالات… ولعل اختزال المشكل في ذلك تسطيح للقضية ولجوهر الاختلافات الحاصلة وهي طبيعية في مجالس متنوعة أرادها الشعب صاحب السلطة والحق الطبيعي كذلك.

ثانيا: أثارت الجلسة لدى الرأي العام ومتابعي صفحات التواصل الاجتماعي ردودا وتفاعلات متناقضة متشابكة لكنها في الغالب سلبية ساخطة غاضبة إلى حد التخوين والشتم والسب، وهذا ليس موقفا سياسيا ولا فكريا لعموم الشعب الذي عبر عن سخطه بمجرد المصادقة على القانون، وإنما هو انعكاس لحالة نفسية واجتماعية جماعية يعيشها الشعب التونسي والشباب بصفة خاصة تجاه السياسيين والعملية الديمقراطية في تونس منذ الثورة إلى الآن. عناوينها تناقض كبير بين المأمول من الثورة والمحصول منها ولو رمزيا، ترذيل وتشويه للسياسي كممارسة وأشخاص وأحزاب نجحت فيه وسائل الإعلام ولوبيات الفساد حتى تقضي على الثورة ومركزية الحرية كقيمة داخل وعي الناس وأحلامهم فيقايضونها بحقوق ومكاسب مادية وحياتية يومية.

ثالثا: الانفصام الذي يلاحظ في مواقف الناس قد يصل إلى درجة غير منطقية، فتجد من يرفض قانون المصالحة هو نفسه طالب به أو رفض قوانين أخرى كقانون العزل السياسي سابقا وفي سياقات أخرى… تجد أيضا من يوافق ومن يرفض في نفس الحزب أو التيار الفكري متأثرين بالمناخ العام الذي أثاره طرح القانون دون معرفة بتفاصيله وما سحب منه أو عدل فيه… تختلف أيضا التحالفات وتتشابك إلى درجة يشارك النائب أو يتغيب ويوافق ثم يرفض في أوقات قريبة وغير مفهومة… كل ذلك ينعكس لدى العموم المتابعين بتناقضات اكبر وأعمق… وكان يمكن أن تثير أحداث اجتماعية أو صدامات لا يعلم إلا الله مداها وخطورتها. بينما يفترض أن الممارسة الديمقراطية في المجالس النيابية هي ساحة الاختلاف والتوافقات وإدارة الخلافات.
أليس المشكل ثقافيا وانطروبولوجيا بالأساس؟ إذ يعيش المواطن التونسي والعربي عموما تناقضا وانفصاما بين شعارات الحرية والاختلاف والتعايش والمواطنة، وهي كلها مفاهيم ومقولات جاءت للمجتمع في عمومه ولبعض النخب أيضا بعد الثورة وفرضها سياق عالمي واقليمي… وبين نمطية في السلوك ضاغطة متمركزة في اللاوعي الجماعي بحيث يرفض الفرد تلقائيا رؤية المختلف والمتميز عنه وعن مواقفه وكأنه المهدد لوجوده ؟؟؟ طبعا مع الاعتراف للقوى والجهات التي اشتغلت كثيرا على ترذيل الثورة وما جاءت به من ممارسات ديمقراطية مرتفعة المطالب والانتظارات.

الحوصلة: ما لم ننتبه له كثيرا أن قبة البرلمان ليست مكانا لإقناع الناس بوجاهة أفكارك ولا مبادئك (كما يفعل النواب وهم مشدودين إلى الكاميرا أكثر من انشدادهم إلى موضوع النقاش نفسه) وليس البرلمان لاكتساب القيم والمبادئ الأخلاقية والدينية أو رفضها أو فرضها لأن ذلك حسم في الدستور وموضعه النفس والروح التي يبقى أمرها عند ربي وليست هذه المواضيع للتوافق والتباعد السياسي والصفقات السياسية وكذلك لا يجب المطالبة بها في كل قانون أو نقاش برلماني ومحاسبة النواب والأحزاب عليها.

الممارسة السياسية في النظام الديمقراطي، وهو نظام سياسي له قواعده النظرية وتفصيلاته الواقعية لا يمكن اعتماده إطارا عاما للفعل السياسي وخرقه كل مرة بفعل الشيزوفرينيا الفردية أو الجماعية لحزب أو تيار فكري أو حتى فئة اجتماعية تحمل إعاقة في تكوينها الشخصي.

تحالف النداء والنهضة… مقايضة أو صفقة في المصادقة على القوانين… تشنج وخصام بين النواب… كل هذه المقولات أو الممارسات أصيلة في العمل البرلماني موجودة في الممارسات السياسية في اعرق البرلمانات وتخضع للتوازنات السياسية.. والسياسة فن الممكن وإدارة للاختلاف ولا بديل عنها سوى الشمولية والاستبداد من قبل مجموعة واحدة أصلها قول فرعون “لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد” بينما الأحكام الأخلاقية عن مواقف الأحزاب والنواب والتحالفات تفترض أيضا أن صاحب الحكم هو من يملك الحقيقة ويصدر حكمه غالبا من منطلق إقصائي فما لا يروقه ولا يعجبه من المواقف يحمله أحكاما أخلاقية من قبيل الخيانة والنفاق والتذيل والبيع للذمم وغيرها مما تعج به صفحاتنا ويشنف آذاننا يوميا.

ألا يمكن القول أن الفراغ الحقيقي هو غياب أطر للحوار الثقافي والسياسي بعيدا عن الفعل السياسي المباشر يتحمل مسؤوليته الجميع أحزاب ومنظمات ومكونات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية الرسمية ايضا ؟؟؟


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليق