عبد الرزاق الحاج مسعود
كيف تحوّلت الثورة السورية إلى حرب أهلية وإقليمية ودولية؟ وهل اقتربت الحرب من نهايتها؟
تلخيص:
تشكّل الثورة/الحرب الدائرة منذ سبع سنوات على أرض سورية حدثا فريدا في تاريخ العرب المعاصر. وقد تصبح في السنوات القادمة علامة فارقة في تاريخ العرب والعالم.
في سوريا ثورة شعبية سلمية ذات أفق ديمقراطي مدني تحرري نجح النظام المخابراتي في تحويلها إلى حرب “كونية”. ساعدته في ذلك رهانات سياسية إقليمية ودولية صاعدة وأخرى متراجعة أو مرتبكة، وبنية ثقافية شعبية محافظة غير مستعدة لدخول المستقبل. وهو (النظام) يظنّ أن تعويم المطلب الثوري الديمقراطي في شبكة الأجندات السياسية الدولية المتناقضة كفيل بالقضاء عليه نهائيا، ولا يتردّد في حرق الشعب والأرض وفكرة الوطن منعا لحركة التاريخ. وهو لا يدري أنه أخرج نفسه من المعادلة الوطنية السورية بما فتحه من أبواب لتدخلات استعمارية خارجية تتفاوض حاليا حول تقسيم ما تبقى من “جثة” سوريا.
مقدّمة :
جزء من العالم الجديد يولد الآن في سوريا ومنها. هناك ترسم بسواد الجثث المتفحمة ورماد الأرض المحروقة ومفاوضات الحلّ السياسي النهائي “مسوّدات” علاقات دولية جديدة ستعيد رسم حدود دول وتحدّد طبيعة أنظمة وتبني تحالفات ومحاور على ضوء ما أنضجته نار الحرب المضطرمة في كل أطراف العالم العربي منذ سبع سنوات بعد أن كانت تعتمل تحت الرماد لعقود طويلة.
المكلّف الأممي بالملف السياسي السوري “ستيفان دي ميستورا” صرّح منذ أيام بأن شهر أكتوبر القادم سيكون حاسما في القضية السورية، قبل أن يضيف بوضوح أكبر بأن “المعارضة السورية لم تربح الحرب، وأن النظام لم ينتصر”. ولا شكّ أن تصريحه يحمل من الإنذار لأطراف مقصودة بعينها من المعارضة السورية وبعض الأطراف الإقليمية أكثر مما يحمل من البشرى بقرب نهاية المأساة السورية. ولا شكّ أيضا أنه تلقى إشارات من القوى الكبرى الفاعلة على الأرض السورية ليستحث المعنيين بتصريحه نحو تعديل مواقفهم بما يلائم تطوّرات الميدان واستراتيجيات الفاعلين الدوليين الذين يستعدون لرسم ملامح المنطقة وربما العالم في مرحلة ما بعد الحرب السورية.
ما الذي يجري في سوريا ؟ ومن يحارب من ؟
تتشابك أطراف الحرب السورية وتتداخل بما يجعل لكل طرف محلي داخلي ارتباطاته الإقليمية والدولية. لذلك سنحاول حصر مختلف الأطراف المشاركة ميدانيا في تحويل الثورة السورية إلى حرب محرقة يصعب معالجة آثارها المجتمعية والسياسية والثقافية في المدى المنظور.
• النظام و”الإرهاب التكفيري” وفخّ الحرب الأهلية:
لا أحد من المراقبين المنصفين يشكّك في سلمية الثورة السورية وشعبيتها حين انطلقت في مارس 2011 كامتداد لموجة ثورات الربيع العربي وحراك ربيع دمشق المدني الذي لم يدم سوى سبعة أشهر (من شهر جويلية 2000 حتى فيفري 2001)، ثم مبادرة “إعلان دمشق” للتغيير الوطني الديمقراطي سنة 2005 التي انتهت بحلّه واعتقال قياداته. ولكن طبيعة النظام والمجتمع السوريين ستحدد للثورة السورية مسارا لم يتوقعه أحد. فقد واجه النظام السوري المظاهرات السلمية منذ الأيام الأولى بالسلاح والقتل العشوائي والتنكيل مما دفع جزء من المتظاهرين الشباب بعد سبعة أشهر من السلمية إلى “خيار” التسلّح (في الحقيقة كان اضطرارا وكان سببا في انقسام الصف الثوري ومدخلا لاختراق الثورة السورية وتخريبها)، وهو خيار غذّاه النظام وخطط له ودفع نحوه بإصرار بزرع عناصر مخابراته وسط المظاهرات السلمية لتبرير قصفها، ثم بتسريب “السلفيين الجهاديين” الذين أخرجهم من السجون ليطلقهم على المظاهرات المدنية ليرفعوا الشعار الديني على حساب الشعار الوطني ويتبنوا خيار الأسلمة الذي كان مدخلا لتفجير وحدة المعارضة وإيقاظ شبح الطائفية والمذهبية المدمّر.
تدريجيا خبا الصوت المدني الديمقراطي الجامع الذي قاد المظاهرات العارمة المطالبة بالحرية والديمقراطية في بداية الثورة. وتبيّن إذاك أن النظام المخابراتي كان يعرف جيّدا تركيبة المجتمع السوري المعقّدة طائفيا ودينيا وعرقيا وقابليتها للتفجير الداخلي، فسارع إلى تغذية المعطى الطائفي بتخويف الأقلية العلوية الحاكمة والمحظوظة (وهي دعاية وقع تضخيمها قصدا للمغالطة إذ أن قاعدة التمييز هي الولاء للنظام لا للطائفة) من “الطائفة السنية” التي وقع جرّ أهلها جرّا إلى مربع الضحية لينتبهوا “فجأة” أن “سنّيّتهم” ممتهنة منذ عقود لصالح طوائف أخرى، ويركنوا إلى تفسير مذهبي مزيّف لمظلومية لم يختصّوا بها من دون فئات الشعب السوري الأخرى (من الثابت وجود حالات تمييز طائفي لكنها ليست مبررا للتضحية بمطلب وطني جامع لا يعيد إنتاج التمييز والانقسام). وسرعان ما وجدت هذه المظلومية المذهبية المضللة داعمين إقليميين طائفيين لم يترددوا في اتخاذها جسرا لاختراق الثورة وحرفها عن صبغتها المدنية الديمقراطية وصبغها بسواد التمذهب والتطييف.
ومما يؤكد رهان النظام على خصوصية التركيبة الطائفية والإثنية للمجتمع السوري ما بادر به من استمالة الأكراد وتحييدهم رغم قمعه الطويل لهم بأن قام في الأيام الأولى للثورة بإعطاء الجنسية السورية لمن حرموا منها لعقود قبل أن يقوم بإخلاء المناطق الكردية من الجيش وترك أسلحته لحزب الاتحاد الديمقراطي (الامتداد التنظيمي والفكري لحزب العمال الكردستاني في تركيا) وإطلاق يده في المظاهرات السلمية التي شارك فيها الأكراد بكثافة في البداية قبل أن يقمعهم الحزب الكردي اليساري المنظّم، وقبل أن يغلب المطلب الإثني القومي الكردي على المطلب الوطني السوري ليشكل هذا الحزب “وحدات حماية الشعب الكردي” و”وحدات حماية المرأة” لتتحوّل معركته لا فقط ضدّ داعش والنصرة وغيرها من الفصائل “الجهادية”، بل ضدّ المعارضة الوطنية المسلحة كلّها، ويدخل مع النظام في تفاهمات ضمنية وعلنية تصبّ كلها في تجيير الثورة لصالح طموحه الاتفصالي.
هكذا خلق النظام مناخ حرب أهلية يتواجه فيها الشعب بمختلف مكوّناته في عملية تدمير ذاتي للنسيج الاجتماعي الوطني على قاعدة الطائفة والعرق والمذهب والعشيرة بحيث ظهرت في سوريا عشرات الميليشيات المحلية المسلحة لم يستطع ضبطها الجيش الوطني الحرّ -النواة الأولى والأهمّ للمعارضة الوطنية المسلحة- الذي حقق انتصارات حاسمة على الجيش النظامي قبل أن يفقد زخمه ويتراجع جراء عوامل ثلاث:
1. أولها طغيان الإيديولوجيا الدينية التي حفّزت الانطلاقة الثورية بما وفّرته من دافع أخلاقي ومعنوي قوي ضروري لإذكاء روح التضحية والذي كان من المفترض أن يصبّ داخل الوعاء الوطني الجامع لكنه سرعان ما تحوّل إلى هوية دينية مغلقة إقصائية بسبب هيمنة تيارات السلفية الجهادية المخترقة مخابراتيا والتي أصبحت مقترنة بتهمة الإرهاب المسوّغ العالمي للعدوان على الشعوب.
2. ثانيا بسبب تناقضات “داعميه” الإقليميين في تركيا والخليج، وهي تناقضات ناجمة عن اختلاف حقيقي بينهم في الدوافع والأهداف والاستراتيجيا (سنعود لاحقا إلى بيان كيف كشفت الأزمة الخليجية الحالية اختلاف دوافع السعودية والإمارات من جهة وتركيا وقطر من جهة ثانية في دعم الثورة السورية).
3. ثالثا بسبب تعرّضه لحرب استنزاف مدمّرة من طرف تنظيم داعش الذي لا يتردد في التنسيق مع النظام لاستهداف فصائل المعارضة المعتدلة كما فعل في الرقة التي حررها الثوار في مارس 2013 واستعادتها داعش بعد تسعة أشهر لتمارس فيها إجراما غايته الوحيدة هي جعل الناس يتحسرون على أيام النظام ويفقد الثورة تعاطف العالم. وإلى جانب ضربات داعش، تعرّضت المعارضة الوطنية المعتدلة إلى بطش ميليشيات الحرس الثوري التابعة لإيران وميليشيات حزب الله، قبل أن يأتي الاستهداف الكاسح من طرف الجيش الروسي (سبتمبر 2015)، ثم يكتمل حصارها بتحوّل الرهان الأمريكي نحو قوات سوريا الديمقراطية وصدور قرار أمريكي بوقف تمويل وتسليح المعارضة ضمن اتفاقات خفض التصعيد وترتيبات الحل النهائي الغامضة بين روسيا والولايات المتحدة.
• الاختراق الإقليمي ثم الدولي للثورة:
بتحويله الثورة إلى حرب أهلية مفتوحة على الفوضى الداخلية عنوانها الرئيسي المظلم والمضلّل “داعش”، فتح النظام كل أبواب سوريا أمام التدخلات الإقليمية والدولية التي يمكن أن نرسم خرائطها حسب أهمية الفاعلين الإقليميين ثم الدوليين على النحو التالي:
1. إسرائيل فاعل إقليمي/دولي أساسي ترتبط مصالحه وربما وجوده مباشرة بطبيعة النظام السوري الجار وبتطورات الثورة السورية. لذلك لا نشك لحظة أنها كانت حاضرة كفاعل رئيسي وميداني منذ انطلاق الثورة. اسرائيل تراوح بين الرغبة في سقوط النظام والخوف من بديل مجهول. وهي تفضل دون شك نظاما استبداديا يضبط شعبه ويلغيه من معادلة القوة على نظام ديمقراطي يسمح استراتيجيا بظهور بؤر مقاومة غير متوقعة. دافع اسرائيل عموما هو هرسلة نظام سياسي كانت بصدد التفاوض معه لعقد اتفاق سلام ولكنها لم تكن تطمئن إليه بسبب إيديولوجيته القومية المعلنة والقائمة على تحرير كل الأرض “العربية” وتحالفه الاستراتيجي مع إيران التي ترفع “شعار” تحرير القدس كجزء من شرعية نظامها الدينية. مع هرسلة النظام كانت اسرائيل تعمل بنفس الإصرار على هرسلة الثورة أيضا لتمنع قيام ديمقراطية تحرّر إرادة الشعب السوري وتفتح الباب أمام تطورات استراتيجية غير مضمونة. وخلال سبع سنوات من عمر الثورة تحرّكت اسرائيل في اتجاهين:
1. ضربت من دون تردّد أهدافا عسكرية محدودة داخل سوريا (مخازن أسلحة واغتيالات) لا تصل بتاتا إلى حدّ استهداف النظام أو حتى إزعاجه في بطشه الجنوني بشعبه الذي كانت تستغله للتباهي الكاذب بـ “ديمقراطيتها” الاستيطانية.
2. منعت بالتنسيق مع حليفها الأمريكي (الذي سنعرض لدوره لاحقا) وصول أسلحة نوعية للفصائل المسلحة وفي نفس الوقت تعمدت ترويج صور إيوائها “الإنساني” لجرحى من المعارضة على حدودها بغاية تشويه الثورة.
ولا شكّ أن اسرائيل ستكون الحاضر الأبرز في ترتيبات الحل النهائي للحرب السورية عبر ثلاث جسور على الأقلّ:
1. عبر الحليف الأمريكي الملتزم استراتيجيا بأمنها دون أن يعني ذلك أنها ترهن مصيرها لديه مع ما ترى فيه من تردّد وارتباك وغموض.
2. عبر الصديق الروسي الذي يعلم أن دخوله الطارئ في المنطقة يحتاج، سواء ليترسخ أو ليضمن أكثر ما يمكن من المكاسب أو حتى لتأمين خروج آمن لنفسه، إلى تنسيق كامل مع اسرائيل رغم انزعاج شركائه الحاليين (إيران والنظام السوري).
ولعلّ نجاح التنسيق الميداني بينهما لسنوات في سماء سوريا (حيث تتمتع اسرائيل بضوء أخضر روسي كامل يسمح لها بقصف “محسوب” لحلفائها المرحليين إيران وحزب الله) يفيد كمؤشر لما يمكن أن تغنمه اسرائيل من الفاعل الروسي الجديد، أو لحدود ما يمكن أن تسمح به هي للمغامر الروسي. تعمل اسرائيل الآن على تعديل مضمون اتفاق التهدئة المرحلي بين روسيا وأمريكا، وتضغط على الأطراف المشرفة على صياغة الحل النهائي في سوريا الذي تريده ضمن “صفقة قرن” تقضي بأن تصبح اسرائيل جزء من محور إقليمي عربي جديد يضمّ مصر والسعودية والأردن وربما “فيدرالية الشمال السوري” ويمنع بقاء إيران في جوارها السوري (رغم هزلية المطلب وشكلانيته بحكم تجذّر وتضخّم حزب الله “الإيراني” في جوارها اللبناني)، وهي تعلم حتما أن وجودها “غير الطبيعي” في المنطقة سيضطرها عاجلا أو آجلا إلى مناورات جديدة على ضوء ما يستجدّ من تطوّرات.
2. تركيا فاعل إقليمي رئيسي تقليدي في الملف السوري. وهي معنية مباشرة بمنع قيام كيان قومي كردي على حدودها السورية، إن قام يوما سيتسع حتما ليضمّ أكرادها وأكراد العراق وإيران. الملف الكردي يشكل خنجرا متحركا في خاصرة تركيا ويحدد إلى حد كبير تحالفاتها واستراتيجياتها المتغيرة في سوريا والمنطقة. فبعد أن راهنت على إسقاط النظام وإزاحة بشار وتبني المعارضة السورية المعتدلة والتغاضي عن التدفق الجهادي نحو سوريا عبر حدودها نحو شمال سوريا بغاية تحجيم الطموح الكردي وإشغاله، ها هي تغيّر وجهتها السياسية جذريا تحت ضغط عوامل عديدة أهمها هشاشة الجبهة السياسية الداخلية رغم الانتصارات الانتخابية التي يحرزها حزب الرئيس أردوغان، والعبء الاقتصادي الذي يمثله ثلاثة ملايين نازح سوري على أراضيها، وتحت وقع سلسلة من الضربات الإرهابية العنيفة التي قامت بها كلّ من داعش وحزب العمال كبّدتها خسائر بشرية كبيرة وكادت تقوّض الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي التركي، وخاصّة استفاقتها الفزعة على محاولة انقلابية كبرى كشفت لقيادتها السياسية لامبدئية حلفائها التقليديين وانكشافها الاستراتيجي. كل ذلك تزامن مع إمساك روسي “رسمي” بالوضع السوري أمام غموض الموقف الأمريكي الذي بدا في مرحلة ما وكأنه فوّض المسألة السورية لروسيا، بما أملى على أردوغان البراغماتي تحيين الموقف والدور التركيين.
في المحصّلة تتجه تركيا -التي تحمّست للثورة السورية في انطلاقتها ظنا منها أن هناك اتجاها دوليا يقضي بالسماح بسقوط النظام قبل أن تفاجأ بعكس ذلك- نحو تنشيط علاقتها بإيران التي تلتقي معها استراتيجيا في العمل على منع كيان قومي كردي على حدودهما المشتركة ومع العراق وسوريا، وهي تدرك أن هذا التنسيق يمكن أن ينطلق الآن من سوريا حيث تحظى إيران بوجود ميداني مهمّ (حضور مباشر وعبر حزب الله)، وسيكون متاحا أيضا في العراق حيث يستعدّ إقليم كردستان لتنظيم استفتاء حول استقلاله وحيث تحظى إيران بنفوذ واسع في كل أجهزة الدولة.
تدرك تركيا أن المحور الروسي الإيراني صاعد حاليا، وقد تسير خطوات مغامرة في اتجاهه خصوصا بعد أن كشفت لها المحاولة الانقلابية الفاشلة حجم التآمر الخليجي وربما الأمريكي عليها، ولكنها تدرك بنفس الدرجة أنه محور لم يمتلك بعدُ شروط المنافسة الدولية الندية اقتصاديا وعسكريا لحليفها الأمريكي القديم الذي لا يزال يمتلك القدرة على “قيادة” العالم في المدى القريب على الأقل.
ربما كانت تركيا في بدايات الربيع العربي مدفوعة بطموح التحوّل إلى قوة إقليمية كبرى، ولكنها الآن محكومة بالتقليل من خسائرها وحماية مصالحها الحيوية قبل كل شيء.
3. إيران (زائد حزب الله) فاعل إقليمي رئيسي، فقد نجحت في خطوة سياسية عسكرية مغامرة في المساهمة (أقول المساهمة لأن دورها لم يكن كافيا لوحده) في تعطيل سقوط نظام الأسد بالقتال إلى جانبه أو نيابة عنه، وفتح باب تطوّرات دولية مفاجئة عنوانها تدخّل عسكري روسي في سوريا ودور روسي دولي قد يكون منطلقا لنظام عالمي جديد يكون لها فيه دور إقليمي ما. بكلّ المقاييس تمثل إيران حالة سياسية خاصّة في المنطقة حيث يقيم نظام الجمهورية الإسلامية شرعيته على الإسلام والمذهب الشيعي والقومية الفارسية، ولا يخفي طموحه في التحوّل إلى قوة إقليمية تقود محورا إقليميا في مواجهة اسرائيل أساسا. سياسة إيران تقوم تقليديا ورسميا على العداء “المبالغ فيه إعلاميا” لإسرائيل ومناصرة القضية الفلسطينية وتنجح أحيانا كثيرة بفضل براغماتية فاعلة في إقامة علاقات سياسية مع دول وتنظيمات لا تشترك معها في الهوية الدينية والمذهبية (لا تتردد في التعامل مع كل جوارها الخليجي بطول نفس وحكمة في تحديد الأولويات مثلما يبدو في حفاظها على علاقاتها بالسعودية منذ 1988 رغم المواجهة الدائرة بينهما مؤخرا في سوريا)، ولكنها لا تجتهد كثيرا في إخفاء هويتها الطائفية بل لعلها تتعمّد إبرازها كخلفية ثقافية ملازمة لسلوكها السياسي كجزء من خطابها الداخلي الموجّه إلى جزء كبير من الشعب الإيراني المحكوم بخلفيته القومية والمذهبية (هي لا تخفي أن هدفها أو من بين أهداف تدخلها في سوريا هو حماية العتبات الشيعية المقدّسة بما يضرب كل مصداقية لما تدعيه من الدفاع عن المقاومة وفلسطين).
المصلحة القومية الإيرانية مرتبطة عضويا بالصبغة الطائفية للنظام، وكل سياستها الخارجية ومنها التدخل العسكري في سوريا محكومة أساسا بحلم قومي فارسي يتمدّد في اتجاهات لا تخفى على أحد جاذبيتها الطائفية (العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وجزء من السعودية، وثانويا أفغانستان والباكستان)، لذلك لا يمكن بالمرة تصديق إيران حين تبرّر تدخلها إلى جانب النظام السوري أنها تفعل ذلك حفاظا على ظهير حقيقي للمقاومة الفلسطينية لا إنقاذا لنظام أقلي يستبيح كل أنواع البطش بشعبه ويمنع عنه أبسط حقوقه الإنسانية بدعوى أولوية المقاومة على الحرية.
إيران مشروع قومي طائفي أسهم في إجهاض الثورة السورية وانخرط عمليا إلى جانب عدوّيه الاستراتيجيّين أمريكا واسرائيل تحت العنوان المضلّل “محاربة الإرهاب”.
لكن هل حققت إيران فعلا كلّ أهدافها في سوريا؟ لا أحد يعتقد هذا ولا هي نفسها. فروسيا الماسك الحالي بكثير من خيوط الحلّ هناك ليست حليفا كاملا لإيران رغم أنها لن تضحّي بسهولة بصداقة إيران التي فتحت لها أبواب المنطقة، ولكنها بالمقابل حريصة بنفس القدر على مصالح اسرائيل أيضا رغم ما يطفو من خلافات بينهما تظلّ جزئية وإجرائية في انتظار توضّح حدود الدور الروسي (الذي سنعرض له لاحقا في حديثنا عن الفاعلين الدوليين).
صحيح أن إيران تستفيد من انكفاء الدور الخليجي، ويمكنها أن تتباهى بفرض بقاء بشار ولو مرحليا، والأهم من هذا كله أن بإمكانها التباهي بفتحها خط اتصال بري يصلها بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا ويوسع حلمها بالتحوّل إلى قوة إقليمية كبرى، ولكنها تراقب بحذر ما يجري في الكواليس من ترتيبات سرية بين روسيا وأمريكا وصديقهما الأقرب إسرائيل.
4. السعودية وقطر لعبتا خلال الحرب السورية دورا إقليميا “وقتيا”، لكن بخلفيتين مختلفتين. إذ تمثل السعودية قوة سياسية إقليمية تقليدية محافظة أربكتها تحولات الربيع العربي. بينما تمثل قطر قوة مالية صاعدة وجدت في هذه التحوّلات التاريخية الكبرى فرصة فعل سياسي إقليمي يناسب ثقلها الاقتصادي وطموح قادتها الجدد.
تحرّكت السعودية في دعمها المالي والسياسي لجزء من المعارضة السورية المسلحة بخلفية الحلم بزعامة العالم الإسلامي السني في مواجهة إيران، وبغاية منع نشأة ديمقراطيات عربية من رحم الربيع العربي المفاجئ، قبل أن يضطرّها الخيار الأمريكي الجديد المنحاز لتسوية سياسية معقدة مع الشريك الروسي إلى رفع يدها عن الملف السوري والاكتفاء بجلب المفاوضين السوريين التابعين لها إلى طاولة الحلّ تمهيدا لتسوية سياسية في سورية لم تعد تعنيها كثيرا أمام حجم ورطتها في اليمن وخطر امتداد الحرب اليمنية إلى أرضها، وأمام أزمة حكم مفتوحة داخل العائلة الحاكمة.
أما قطر فقد وجدت في ثورات الربيع العربي فرصة للعب دور سياسي عربي وإقليمي (على حساب السعودية المتراجعة) يناسب حجمها المالي بعد أن أصبحت قوة استثمارية عالمية. لم يكن لقطر مشروع مذهبي أو خلفية “إيديولوجية” في سلوكها السياسي منذ 1995 (وصول الشيخ حمد آل ثاني إلى السلطة) سوى ما يمكن تسميته بـ “ليبرالية اقتصادية ذات مسحة إسلامية” منفتحة على كل تيارات الفكر والسياسة العربية (احتضنت في قناة الجزيرة وحول دوائر القرار السياسي رموزا إسلامية وقومية وعلمانية عديدة). قطر مثلت نموذجا للديناميكية السياسية الطموحة في ساحة عربية راكدة. وقد بدا للقيادة القطرية أن الربيع العربي يسير في اتجاه التاريخ وأنه خيار شعبي كاسح لا يمكن التراجع عنه. وربما قدرت قيادتها أنه يحظى بمساندة أمريكا القوة الأكبر في العالم. لذلك دعمت الثورة السورية باندفاع، قبل أن تفاجأ بأجندة شريكها السعودي الخفية ضدّها (كشفت أزمة حصار قطر تخطيط السعودية لقلب نظام الحكم القطري لأنه سار بعيدا في دعم الثورات العربية وفي “وراثة” الدور السعودي عربيا وإقليميا)، وببراغماتية الموقف الأمريكي الذي غيّر أولوياته ومنع كلّ دعم للمعارضة السورية.
• الدور الأمريكي:
(ولن نعرض للدور الأوروبي لأنه اكتفى بدور “ثانوي” ضمن التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا).
هل تفتقد أمريكا حقّا لإستراتيجية واضحة وثابتة في سوريا؟ نجيب مباشرة بنعم جزئية ولا جزئية. إذا نظرنا إلى نجاح الفاعل الروسي في التسلّل إلى سوريا (في أول دور دولي يجرؤ فيه على الاحتكاك بشرطي العالم الأوحد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي) وتمكنه من فرض واقع ميداني جديد، يمكن القول بأن أمريكا أتاحت لخصم سياسي استراتيجي فرصة ملء الفراغ الذي تركته حين انشغلت بحرب الانتخابات داخلها وترددت طويلا أيام أوباما في موقفها من بشار الأسد بين رغبة معلنة في رحيله وخوف أكبر خفيّ من بديل غير جاهز وغير مضمون. وفي المقابل إذا نظرنا إلى نسق العودة الأمريكية الهادئة إلى الشأن السوري والتحاقها بمفاوضات أستانة التي أقصيت منها ثم جلوسها مع “الشريك” الروسي للتفاوض حول ترتيبات الحل النهائي، يمكن القول بأن أمريكا لم تخسر كثيرا من غيابها الوقتي. ربما من المبالغة القول بأنها استدرجت روسيا للمستنقع السوري لتُحمّله كلفة حرب لن يتحمّلها اقتصادها الهشّ، ولكنّ المحصّلة النهائية لم تخرج أمريكا من المعادلة الإقليمية، خصوصا وأن سياستها تجاه إيران قائمة على الاحتواء ومراقبة التمدّد الإيراني (عبر الاتفاق النووي الذي يسمح لها بمراقبة المنشآت النووية الإيرانية رغم ابتزاز ترامب الدائم لإيران وتهديده بتعليق الاتفاق). أمريكا شاركت بالتغطية الجوية في العراق مع الجيش العراقي وميليشيا الحشد الشعبي في تحرير الموصل من سيطرة داعش، ودعمت الجيش اللبناني (الركن الأول في معادلة حزب الله الذهبية: الجيش والشعب والمقاومة.. قبل أن يضيف إليها ركنا رابعا هو الجيش السوري) في معركة تحرير جرود بعلبك من تنظيم داعش في نفس الوقت الذي كان فيه حزب الله يقوم بنفس المهمة على الجانب السوري المقابل.
أخيرا من السابق لأوانه التنبّؤ بحقيقة ما يثار حول دور روسي محتمل في نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وهل سيكون للتجاذبات الداخلية الأمريكية تأثير ما على طبيعة الدور الأمريكي التقليدي في العالم. وإن كنا نرجّح استمرار التأثير الأمريكي في سوريا على ضوء ما تفرضه ميدانيا من سيطرة كردية على الشمال السوري، وما تفرضه أيضا من تنسيق مع روسيا أساسا من رسم لحدود مناطق “خفض التصعيد” تمهيدا للحل السياسي.
• الدور الروسي :
تعود روسيا بوتين من بوابة سوريا إلى الساحة الدولية، وتستأنف تاريخها “القيصري/السوفياتي” في حضور دولي يناسب حجمها العسكري (أكثر منه الإقتصادي غير المستقرّ) وشعورها القومي، وترغب في إعادة حد أدنى من التوازن في العلاقات الدولية بعد انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم. تصرّفت روسيا كلاعب دولي لديه علاقات ومصالح مع كل الأطراف المشاركة في الحرب السورية. ورغم أنها تصنّف كقائدة لمحور روسي إيراني سوري، ورغم قيامها فعليا بتأمين بقاء نظام الأسد، إلا أنها أثبتت قدرة على إدارة سياسية للحرب بالتحوّل السريع من الدور العسكري (حيث قامت عموما بتحقيق توازن محسوب على الأرض بين النظام وإيران من جهة والمعارضة من جهة ثانية، مراعية خريطة المصالح المتشابكة لكل من اسرائيل وتركيا والأردن والأكراد والحضور الأمريكي “المعلّق” حين دخولها) إلى الدور السياسي ونجحت في إطلاق مفاوضات شاملة بين النظام والمعارضة بمشاركة كل الأطراف المعنية بالحرب في سوريا.
من المهم أن نسجل السلاسة التي يجري بها الدور الروسي في سوريا منذ إعلان التدخّل في سبتمبر 2015 مرورا بإعلان وقف العمليات العسكرية والانسحاب التكتيكي في مارس 2016 وصولا إلى نجاحها في فرض جلوس فرقاء الحرب على طاولة المفاوضات والتقائها مع “الشريك” الأمريكي سرّا للتفاوض بشأن ترتيبات الحل النهائي في سوريا.
خاتمة :
نجح النظام السوري بفضل “كفاءة” أجهزته المخابراتية وخبرته السياسية الطويلة وجرأته على كل أنواع الجريمة في حق شعبه في حرف الثورة السورية عن هويتها المدنية الديمقراطية باختلاق البعبع الإرهابي وتوفير ظروف رعايته إقليميا ودوليا، ونجح في تشويه الثورة بأن حوّلها إلى حرب أهلية دمّرت النسيج الاجتماعي السوري المعقّد، وفتح أبواب سوريا لحلفائه الإقليميين والدوليين، وساهمت إلى جانبه تنظيمات تكفيرية مخترقة وموظّفة وحسابات خاطئة لأطراف إقليمية تتطلّع لأدوار سياسية في المنطقة في تشويه الثورة بأن مكّنت النظام من الاختباء خلف شعار محاربة الإرهاب الذي أصبح عنوانا سياسيا مضلّلا لاستباحة سيادة الدول وإجهاض ثورات الشعوب.
ولكنّ الواقع الميداني المتحرّك وما راكمته فصائل المعارضة الوطنية المسلحة من خبرات ودروس سياسية، وانكفاء التنظيمات التكفيرية المجرمة لصالح مبادرات سياسية مدنية بديلة، والاضمحلال الفعلي للنظام لصالح الكفيل الروسي والوصي الإيراني، والمخاض التفاوضي العسير الذي يمهّد لمصالحة وطنية على قاعدة الحفاظ على وحدة الأرض السورية واستبعاد فكرة الكنفدرالية التي قد تفتح باب التقسيم الطائفي والعرقي لسوريا، كلّ هذه العوامل مجتمعة تسمح للشعب السوري وقواه الوطنية بالتفكير في مرحلة ما بعد الحرب السورية واستئناف مطالبه في الحرية والديمقراطية رغم هول الخسائر وفداحة التضحيات.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.