Site icon تدوينات

من أوراق مدرس من الزمن التونسي السعيد..

الطيب الجوادي

الطيب الجوادي

الطيب الجوادي
مازلت أذكر لحظة توصلت برسالة الانتداب من الوزارة وكنت قد تخرجت من دار المعلمين العليا بسوسة منذ شهرين، أسرعت بها إلى هنية التي أغمي عليها بمجرد علمها بالخبر، وعندما استفاقت راحت تزغرد وترقص وفي يدها رسالة الانتداب، فتقاطر علينا الجيران وراحوا يهنئوننا بحرارة، وأقسمت هنية أن يكون “فطور” الجميع “في دارنا”، كانت رحمها الله سعيدة سعادة ذلك القائد الذي كسب معركة فاصلة، فقد كانت ترى أنها “تهنّات عليّ” باعتبار أنها من جيل يرى أن الوظيفة “مسمار في حيط” وأن من ينتدبه “الحاكم” للعمل فقد كسب أجر الدارين وفاز بالسعادة المطلقة وأنه لن يجوع ولن يعرى !
انا أيضا كنت لا أكاد أمسك نفسي من الفرحة، فقد أصبحت أستاذا وانفتحت لي كل أبواب السعادة وسيصبح لي راتب محترم وسأتمكن من بناء مسكن والاستقلال بحياتي ! انتحت بي هنية جانبا وذكرتني بأن عليٌ ديونا كثيرة تجاه العائلة ويجب ألا أتناسى فضلها وفضل الوالد عليّ: لذلك يجب أن أكافئ الوالد بأن أرسله للحج، ويجب أن أقتطع جزءا معتبرا من راتبي لمساعدة العائلة “باش تعيش أيامات باهية” بعد سنوات الحرمان الطويلة، كما ذكرتني هامسة بأنها باعت “فردتها وبعض حليّها” من أجلي، وأنها سهرت الليالي وعانت الحرمان لأصل إلى ما وصلت إليه، كما نبهتني أنه يجب علي أن أفكر “في تجهيز” أختي الكبرى التي بلغت مبلغ الزواج وكذا اقتناء اللوازم المدرسية لأخي الأصغر الذي كان يدرس في الإعدادي، وانهت كلامها بجملة ذات مغزى:
– خالاتك وعماتك واعمامك، ماتنساهمش وليدي، والله يحبوك
طمأنت هنيّة بأنني سأساعد الجميع ،وسأرسلها هي والوالد لأداء فريضة الحج في أول مناسبة، فاحتضنتني بحب والدنيا لا تكاد تسعها من الفرحة والفخر، بهذا الابن الذي “ناب بيه ربي” وسيقلب حال العائلة من حال إلى حال.
تم تعييني في قرية نائية في ولاية القصرين تُدعى “العيون”، وأعلمني زميلي الذين عُيّن قبلي بسنة بأن المرتب هو في حدود المائتين والستين دينارا، وتبين لي أنني يجب أن أقتطع منه ما يقارب المائة وخمسين دينارا هي تكاليف التنقل والكراء والأكل وغير ذلك من الاحتياجات الضرورية.
وتبخرت جميع الاحلام.

Exit mobile version