نور الدين الغيلوفي
من الغباء أن تقطع بيدك الخشبة التي تجلس فوقها…
شهر سبتمبر شهر العودة المدرسية.. البدء والفاتحة والمقدّمات الناجحة في وطن عَمَرَتْهُ الثورة بحرية ليس أقدس منها مقدّمةً للكون ومفتاحا للإنجاز.. ولكن.. ما أشرس هذه الــــــــ(لكن) تكاد تنسف كلّ الذي يأتي قبلها وتنسخه نسخ الشمس للظلّ..
ولكنّ الحمقى يأبون علينا أنفاس الحرية بعراكهم القبَليّ التَعِسِ كأنّ جهة شيطانية نفثت في أرواحهم من عفنها فلوّثت المدى…
صحبتُ الفتى لترسيمه بالمدرسة الإعدادية.. هرج ومرج.. سوق ودلّال..
قابلني المدير بوجه متعَبٍ كالذي مرّ عليه أسبوع لا نوم فيه..
لا ترسيم لأبنائكم أيّها الأولياء.. المرفَق معطَّلٌ لأنّ الوعي معطَّبٌ… والأطراف تتنازع.. كلٌّ يزعم أن ترسيم التلاميذ ليس من مهامّه ويحتجّ بورقة ضاع حبرها يدفع بها وثائق الأطفال أقبلوا مستبشرين فبادرهم العبوس والنكوص.. وما أقبح أن ترى النهاية وأنت بعدُ لم تبدأ الطريق…
– دُعيَ الطرف الأوّل (لا أريد عراكا مع أحد ولا رغبة لي في المساجلات.. وكلّ الذي أبتغيه ترسيم ابني ليستأنف دروسه والدفاع عن هذه المدرسة العمومية ضدّ قطّاع الطريق) إلى ترسيم أبناء الشعب بمدرستهم العمومية فدفع عنه الوثائق بدعوى أنّ الترسيم ليس من مهامّه.. انتظر الأولياء وأبناؤهم نهاية الأسبوع المنقضي يلعنون العطالة ويعجنون من الانتظار رغيف الأمل.. فلمّا تنفّس يوم الاثنين سبقوا الوقت إلى المدرسة.. ولكن!.. غاب الطرف الثاني الموكول إليه ترسم التلاميذ.. فترسيم التلاميذ ليس من مهامّه…
– ومن المضحِكات أنّ امرأة أشفقت على التلاميذ وأوليائهم فشرعت في إنجاز عملها الذي ليس من مهامّها.. ولكن “يافرحة ما تمّت”.. جاءها من وراء حجابٍ هاتفٌ: “لو أنّك أنجزت العملَ فسنعيدك من حيث جئت وسنلغي نقلتك التي شقيت لأجلها”!
– ومن المبكيات أنّ موظّفًا محترَمًا رافضا لسلوك الصبيان عبّر عن ألمه لمشهد الأولياء وأبنائهم ولكنّه باح لي بأنّه لا يريد أن “يهرسله” زملاء له في عمر أطفاله.. فكان الرجل يعتذر محزونا…
– الأطفال لا يفهمون شيئا وليس من مهامّهم أن يفهموا.. والأولياء تركوا أعمالهم لترسيم أبنائهم فضاعت الأعمال ولم ينجزوا ما أضاعوها لأجله.. وليس من مهامّهم أن يفهموا تناقضات هيئات قَبَليّة لا ترحم وحسابات غبيّة أضيق من ثقب إبرة ترفع لواء تنمية الوطن وتنشد في الصبح والمساء وما بينهما “نموت نموت ويحيا الوطن”!..
– أحد الأولياء كان يلعن المدرسة والوزارة والنقابة والثورة ومن تسبّب فيها قائلا: “فدّدونا الله يهلكهم.. عطّلونا الله يعطّلنا على جنازتهم”.. وأقسم الآخر “والله لو أنّني أستطيع سبيلا لما تركت أبنائي رهينة لهؤلاء ولفررت إلى مدرسة خاصّة ربحا لوقتي من الضياع وحفظا لأعصابي من التلف وإنقاذا لأبنائي من هذا الــ… ونطق بعبارة أتحفّظ عليها…
عدت من المدرسة ولم أتمكّن من ترسيم ولدي.. الجماعة رفضوا ولا أمل حتّى في “ارجع غدوة” هذه المرّة.. العمل ليس من مهامّ العامل والطعام ليس من مهامّ الطاعم والكتابة ليست من مهامّ الكاتب والقراءة من غير مهامّ القارئ والأبوّة ليست من مهامّ الأب والأمومة ليست من مهامّ الأمّ والمداواة ليست من مهام الطبيب والأمن ليس من مهامّ الشرطي وحماية الوطن ليست من مهامّ الجندي…
لهفي على مدرستي العمومية ماذا يراد بها؟ هذا المرفق يحاربه أهلُه ويعطّبه القائمون عليه.. المدرسة جيش يدمّره جُندُهُ.. فهل رأيتم غباء يعادل هذا الغباء؟.. ولا يحدّثني أحد عن تطوّعه لخدمة الوطن فهذه البلاد حاميها حراميها.. ووطن كثر حُماتُه هو عنوان لوطن كثُر “حراميته”…
لا تحسبوني يائسا.. فوالله مذ قامت الثورة ما عرف اليأس إليّ طريقا ولكنّ الوجع كثيف…