كيف قضّيت عطلتك ؟
حسين السنوسي
1. عندما كنّا في السّنوات الأولى من الإبتدائيّة كان هناك نصّ في كتاب من كتب القراءة يسأل التّلميذ عن الكيفيّة والمكان الذّين قضى فيهما عطلته.
2. في تلك السّنوات كان أغلبنا فقراء في بلد فقير. لذلك فإنّ الإجابة على هذا السّؤال كانت بالنّسبة لأكثرنا بسيطة: قضيت عطلتي كما أقضي سائر أيّام السّنة في بيتنا أو بين بيتنا وبيوت أقاربي أو في السّاحة المجاورة لبيتنا ألعب كرة القدم بحذاء أو بدون حذاء.
3. هذه السّنة قرّرت -لحاجة في نفسي- أن أجيب على هذا السّؤال فاكتشفت بعد أكثر من أربعين سنة من طرحه عليّ وعلى أقراني أنّه لم يكن ساذجا ولا بريئا.
4. أجيب إذن. قضيت عطلتي تحت شمس الجّنوب الحارقة على بعد أكثر من مائة كيلومتر من أقرب شاطئ. لم يكن هذا مزوشيّة منّي بل لأنّ الصّيف في هذه الرّبوع فصل لمّ الشّمل. فيه يعود أفراد العائلة من الخارج أو من كبرى المدن التّونسيّة وفيه تقام الأفراح. من أجل عيون لمّ الشّمل إذن يتحمّل النّاس -ونحن منهم- درجات الحرارة الخمسين.
5. لا بدّ والحالة هذه أن يتدبّر النّاس أمرهم ويجدوا حلّا لمشكلة الدّرجات الخمسين. يقول أحد الأصدقاء “لقضاء القيلولة بسلام يحتاج المرء إلى مكيّف وكتاب”.
6. النّاس هنا يترحّمون على من اخترع المكيّف ومن صنّعه ومن استورده ويتذكّرون أصيافا -وما بالعهد بالقدم- كانوا يكتفون فيها بما وهبتهم الطّبيعة من وسائل بسيطة لمقاومة الحرّ الشّديد.
7. القائلة هنا تدوم ثلاث ساعات على الأقل هي تقريبا الفترة الفاصلة بين صلاتي الظّهر والعصر. خلال هذه السّاعات الثّلاث تخلو الشّوارع من البشر ومن كلّ مظاهر الحياة عموما.
8. سبق أن كتبنا في نفس هذا الموضع أنّ العرب أمّة تتثاءب ومن أراد التّأكّد من هذا فعليه زيارة هذه الرّبوع في فصل الصّيف حيث تتوقّف كلّ الأنشطة المنتجة أو على الأقلّ تتعطّل ويكثر الجالسون في ظلّ النّخل أو تحت الحيطان أو في المقاهي.
9. النّاس -أو بالأحرى الرّجال- هنا يجلسون في المقهى أربع ساعات يوميّا وهو وقت يكفي للقيام بتجربة علميّة متوسّطة أو لحلّ مشكلة رياضيّة معقّدة أو لكتابة تدوينة طويلة أو لقراءة ربع القرآن الكريم.
10. لا غرابة إذن أن تكثر المقاهي وتصبح في عددها وفي عدد مرتاديها المنافس الوحيد للمساجد.
11. يلاحظ مرتاد المساجد في السّنوات الأخيرة أنّها صارت مكيّفة ممّا يسهّل مهمّة الذّين يلجؤون إليها أملا في الهروب من نار الآخرة وهربا من حرّ الدّنيا.
12. في أحد هذه المساجد بادرني بالحديث رجل أعرفه معرفة سطحيّة ورجاني أن أفسّر للأوروبّيين الذين أعرفهم أنّ هذا الدين دين رحمة وأن المسلم الحق لا يلحق أذى حتّى بنملة. تساءلت بعد أن شكرته ووعدته أن أفعل “لماذا ينصّب الذّبّاحون أنفسهم ناطقين باسم هذه الأمّة وأوصياء عليها حتّى لا يكاد يسمع للرّحماء صوت ؟”
13. قلنا عن المكيّف بعض ما يجب أن يقال فماذا عن الكتاب ؟
14. القرّاء الكبار يقرؤون في كلّ مكان وفي كلّ الظّروف. يروى أنّ الرّاحل محمّد حسنين هيكل لم يتوقّف عن القراءة حتّى في ليلة دخلته. أذكر أيضا ما كتبه أستاذنا عصمت سيف الدّولة رحمه اللّه عن حياته في السّجن وكيف لم تمنعه قسوة ظروف الإعتقال من مواصلة حياته الفكريّة بما فيها من قراءة وكتابة.
15. القرّاء الكبار يقرؤون أيضا في كلّ زمان لكنّ الصّيف يظلّ ربيع القراءة.
16. القرّاء الكبار أساتذتنا. نقرأ أقلّ ممّا يقرؤون لكنّنا نشترك معهم في أنّنا أصبنا مثلما أصيبوا بفيروس القراءة الجميل فلم يعد يمرّ علينا يوم لا نقرأ فيه. لا غرابة إذن أن تكون عطلة الصّيف فرصة نحاول فيها أن نقرأ ولو جزءا بسيطا من الكتب التّي تراكمت منذ سنوات في المكتب أو في غرفة النّوم.
17. هذه السّنة مثلا كان لنا موعد مع طارق بن زياد وعبد الرّحمان الدّاخل -صقر قريش- ويوسف بن تاشفين وعبد المؤمن بن علي ثمّ مع الملكين الكاثوليكيّين -ايزابيلّا وفرديناندو- وأيي عبد اللّه الذي بكى كالنّساء ملكا مضاعا لم يحافظ عليه مثل الرّجال. كان لنا موعد أيضا مع بعض الذّين صنعوا النّهضة الأوروبّيّة: ميكالانجلو ورافائيلو وكريستوف كولومبس وماجلان وإراسموس ومارتن لوثر.
18. هذا الصّيف الأندلسيّ أعادنا إلى سنة 1492 التّي سقطت فيها آخر الدّول الإسلاميّة واكتشف فيها الكاثوليكيّ جدّا كولمبس العالم الجديد معتمدا على تجربته كبحّار وعلى مراجع علميّة قليلة أحدها كتاب للعالم الفلكي “العربي” أحمد بن كثير الفرغاني.
19. تقرأ في هذه المواضيع فيعود إلى ذهنك السّؤال الملحّ “لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم ؟” ثمّ لا تستطيع أن تمنع نفسك من طرح سؤال تحاول أن تضع فيه أقلّ قدر من النّرجسيّة والشّوفينيّة “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟” ثمّ يبلغ الوجع الأندلسيّ ذروته فتسأل “ماذا خسر المسلمون بانحطاط المسلمين ؟”.
20. عندما كنّا مراهقين كنّا نطرح هذه الأسئلة وغيرها على أنفسنا وعلى غيرنا ونجيب عليها بكثير من الثّقة والسّذاجة وكنّا أحيانا نسخر من الذّين يقدّمون بنفس السّذاجة ونفس الثّقة أجوبة تختلف عن أجوبتنا.
21. هؤلاء المراهقون الذّين قال بعضهم في بعضهم ما لم يقل مالك في الخمر جمعتهم هذه الصّائفة مبادرة سعيدة نظّمها بعض الذّين هاج بهم حنين من جاوز الخمسين إلى طفولته ومراهقته.
22. لم تكن “اللّمّة” سياسيّة ولو كانت كذلك لاختلفنا حول الثّورة والإنتفاضة والرّبيع العربي-العبري وحكم الترويكا وتسليم البغدادي المحمودي وأصدقاء سوريا والبراميل المتفجّرة.
23. أنظر إلى الوجوه وأبتسم. هذا جيل فريد. جيل تعميم التّعليم. هو أيضا جيل سياسيّ بامتياز. كان من الصّعب في ذلك الزّمان الجميل أن تكون “محايدا”. هذا جيل الدّروس المسجديّة والولادة الفعليّة للحركة الإسلاميّة والمحنة الأولى لنفس هذه الحركة. هذا جيل أحداث جانفي 78 والثّورة الإيرانيّة وعمليّة قفصة والعدوان الصّهيوني على لبنان وطرد المقاومة الفلسطينيّة من هذا القطر. هذا جيل جريدة “الرّأي” العظيمة التّي تعلّم فيها التّونسيّون بمختلف أجيالهم دروسهم الأولى في الدّيمقراطيّة.
24. أنظر إلى الوجوه وأبتسم. هذا كان يقرأ بنهم لا يفرّق في قراءاته بين القطبين -محمّد وسيّد- وصادق جلال العظم ولا بين ترجمات جورج طرابيشي وتحقيقات محمّد عمارة. هذا كان يردّد بين نفختين من سيجارة “قودلاك”: “يا قلب نكويك بالنّار” ثم خرج من شاعريّته إلى شاعريّة أخرى قادته بعد ذلك بسنوات إلى السّجن والمنفى. هذا كان يحلم لنفسه بمسيرة تشبه مسيرة “معمّر القذّافي” حتّى أنّنا كنّا نسمّيه “العقيد”. هذا كان يملك أجمل صوت في المعهد وكان في سنواته الأولى يغنّي “سنة وسنتين” لفريد الأطرش ثمّ سرعان ما انتقل إلى “إخواننا أبناء تلّ الزّعتر”. هذا قرأ نظريّة الثورة العربيّة من الصّفحة الأولى في الجزء الأوّل إلى نقطة النّهاية في الجزء السّابع بل كان يحفظ منها فقرات كاملة. هذا رأيته يوم طردنا الأمن من المعهد ولاحقنا في شوارع المدينة يرشق “قوات القمع” بالحجارة ويصرخ “اضربوا العميل”.
25. هؤلاء أبناء جيلي وأنا أحيّيهم فردا فردا.
26. لو عرضت تدوينتي هذه على أحد أساتذتي الذّين عرفتهم في ذلك الزّمان الجميل لشطب نصفها عائبا عليّ خروجي عن الموضوع ولكتب في الهامش بالقلم الأحمر: “سألناك كيف قضيت عطلتك وها أنت تتحدّث عن الأندلس والنهّضة الأوروبية وعن أستاذك عصمت سيف الدّولة ولو تركنا لك مزيدا من الوقت أكثر لكتبت عن النّكبة الثّالثة وعن فنّ الشّتيمة عند مظفّر النّوّاب”.
27. لم يكن سؤال كتاب القراءة ساذجا ولا بريئا. قل لي كيف قضيت عطلتك أقل لك من أنت ومن أهلك وكيف حال أمّتك.