الباجي والغنوشي ومقابلة القرن

عبد القادر الونيسي
يتحفنا شريط أخبار الثامنة بين الحين والآخر بصور الشيخين وهما يتبادلان أطراف الحديث في مشهد يبدو فيه الكثير من الود والاحترام.
العلاقة بين الشيخين بدأت بعد الثورة مفتاحها كان عبد الفتاح مورو زميل وصديق الباجي لسنوات. بدأت عادية دون حميمية خاصة. وقتها كان الباجي يدير حكومة ما بعد الثورة وكان في حاجة للغنوشي لتهدئة الأوضاع وخاصة لتمكينه من رئاسة دون صلاحيات كبرى بعد الإنتخابات. ذاك الزمان كان الغنوشي ملك تونس التي أقبلت عليه للتكفير عن ذنوبها.
استيقظت روح الثورة عند الغنوشي ورفض تحقيق أمنية الباجي والرجوع إلى الوراء ووصف الباجي “بالحكة القديمة”. أسرها الباجي في نفسه ولم يبدها وهو المحنك الذي شرب السياسة منذ نعومة أظفاره. اختفى فترة بعد حكومة الترويكا الأولى ثم عاد في صورة المنقذ بعد ظهور إرتباك الإئتلاف الحاكم في إدارة شؤون البلاد. أعلن الباجي تأسيس النداء واستجمع كل شروط التعبئة من قديم وجديد ويسار ويمين…
تفأجأت النهضة بحركة الباجي والتي ظنت أنها تمكنت من البلاد خاصة بعد وصول الإخوان إلى السلطة في مصر. بدأ الغنوشي بإطلاق نار كثيف على الوافد القديم الجديد متوعدا بأن الشعب سيأتي عليه كما أتى على نظام بن علي وهو لا يدري أن الباجي خبر البلاد وأهلها. الغنوشي لم يخرج عن قاموس السياسة في هجومه على السبسي تبعه في ذلك آخرون من النهضة بعبارات لا تليق بالسياسة. سقط الإخوان في مصر وأدرك الغنوشي إنكشاف الظهر وأنه في مرمى النار (انظر مقالنا: النهضة غزوة أحد وانكشاف الظهر) وبدأ في مراجعات تكتيكية لإنقاذ حركته من محرقة الإخوان في مصر.
جمع الباجي كل القوى المعادية للنهضة خاصة بعد حادثي الإغتيال ودخل الإنتخابات وفاز بكل استحقاق. دقت ساعة الإنتقام لكن العقل السياسي المحنك ليس هو العقل الثوري الذي تحركه ردود الأفعال. أدرك الباجي أنه لا يمكنه الإعتماد على أحزاب اليسار التي مازال يسيرها عقل المراهقة السياسية وأن القوتين القادرتين على تثبيت سلطانه هما “الماكينة” القديمة والنهضة. عمل الباجي على ترويض النهضة ترهيبا وترغيبا حتى ظن الناظر من بعيد أنها ألقت ما فيها وتخلت.
التدافع الذي يديره سياسيان بارعان بعد انقراض هذه الفصيلة مشوق ويعيد للسياسة بريقها (انظر من يحكم امريكا وبريطانيا وفرنسا ومصر اليوم).
كان بورقيبة كثيرا ما يردد أن تونس “صغيرة عليه”. هل أن تونس اليوم لا تحتمل رجلين في حجم الباجي والغنوشي وأن “التكنوقراط” قادرون على تسيير دواليب الحكم و”بلاش وجع الرأس” أم أن هذا البلد الصغير يعيد للسياسة مجدها المفقود وربما نشهد فصولا ستصبح موادا لطلاب العلوم السياسية فيما بعد.
يدرك الغنوشي أنه أمام موقف صعب أمام غريمه لكنه لا يرمي المنديل ويواصل تحريك قطعه على الرقعة بكل دهاء ولسان حاله يقول: تلاعبني بالإرث ألاعبك بالأوقاف.
نتفق أو نختلف مع الرجلين إلا أن المشهد يحيل على مقابلة العصر بين أسطورتي الشطرنج في سبعينات القرن الماضي: الأمريكي بوبي فيشر والروسي بوريس سباسكي.
انحبست أنفاس العالم حينها وهو يتابع المنازلة. انتصر الأمريكي في النهاية وكان الإعلان السابق لأوانه بهزيمة المعسكر الشرقي.
مشاهدة طيبة للجميع.

Exit mobile version