حكومة الحرب.. والتوافق ما دون البانكيموني

عادل بن عبد الله
شهدت تونس في الأيام الأخيرة حدثين سياسيين هامّين، أولهما الحوار الذي أجراه رئيس الجمهورية باجي قائد السبسي مع جريدة “الصحافة اليوم” وذلك في 06/08/2017، وثانيهما التحوير الجزئي الذي أدخله رئيس الوزراء على حكومة “الوحدة الوطنية”. وسنحاول في هذا المقال أن نحصر اهتمامنا أساسا في نقطين: طبيعة الحكومة الجديدة ودلالات تعامل النهضة معها ومع تصريحات رئيس الجمهورية بشأن التوافق و”مدنية الحركة”.
هي فعلا حكومة حرب…لكن على من؟
جاء في أول تصريح لرئيس الحكومة يوسف الشاهد (الذي يشغل واقعيا منصب وزير أول في ظل تغوّل رئاسة الجمهورية) يعد الإعلان عن التحويرات الجزئية التي أجراها على حكومته “بعد التشاور مع رئيس الدولة” قوله إنّ “الحكومة ستكون حكومة حرب، وسنخوض نفس المعركة ضد الفساد والإرهاب، ومن أجل التنمية”. ولن نتعرض في هذا المقال بالتفصيل وبالأرقام لنسف الادعاءات الحكومية فيما يخص هذا الثالوث الذي يستمر يوسف الشاهد في اعتباره “محور” معركته وأساس شرعيته: ثالوث الفساد والإرهاب والتنمية. ولكننا بدل ذلك سنحاول أن نفهم المعنى الحقيقي “للحرب” في الجملة السياسية لرئيس وزراء حملته التضامنات الجهوية والإملاءات الخارجية إلى القصبة، وقد كان أقصى حلمه قبل الثورة أن يُنهيَ حياته المهنية في منصب مدير عام لشركة عمومية أو خاصة.
لا شك في أن هذه الحكومة الرابعة منذ تولي نداء تونس الحكم بعد انتخابات 2014 -ستكون فعلا حكومة حرب ولكنها لن تكون حكومة حرب على الفساد -فهي ثمرته ولا يمكنها أن توجد لولا دعم اللوبيات لها-، ولا حكومة حرب على الإرهاب -فهي قد أخفقت في هذا الملف وتلاعب به لأغراض سياسية أكثر مما نجحت في الحد من مخاطره واقعيا-، ولا أن تكون حكومة تحقق التنمية -فالأرقام الكارثية للعجز التجاري ولتراجع قيمة الدينار تغني عن أي تفصيل-، إنها حكومة حرب لكن على أية استراتيجيات حقيقية لتغيير منوال التنمية ومنطق الحكم والجهات المهيمنة عليه، ولكن تنجح في ذلك إلا بأن تكون حربا على:
1. حكومة حرب على أي تعديل جذري في البنية الجهوية والزبونية للسلطة والثروة (هيمنة البلدية والسواحلية وتعزيز مواقعهم داخل الأجهزة التنفيذية)، بحيث تواصل الدولة دورها كأداة لإدارة التخلف والتبعية والتفاوت الجهوي والفئوي. وهي سياسات لا يمكن اعتبارها إلا استمرارا للميراث “التحديثي” الفاشل منذ بناء ما سُمّي مجازا بالدولة الوطنية بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا -باتفاقية استقلال هي كالغول الذي يسمع به المؤرخون ولا يمكنهم رؤيته-. كما يمكننا اعتبار هذه الحكومة حربا على الفصل بين السلطات وعلوية القانون وذلك بإصرارها على أن تشرك فيها أشخاصا مازالت الدوائر القضائية المختصة تنظر في شبهات فساد تحوم حولهم. ولا شك أن توزيرهم وتمتيعهم بغطاء “حكومة الوحدة الوطنية” سيجعل القضاء في وضعية لا يُحسد عليها عند التعامل مع ملفاتهم.
2. حكومة حرب على استحقاقات الثورة وعلى أي إمكانية لعقلنة الأداء الأمني وتوجيهه وجهة جمهورية -بتعيين شخص على رأس وزارة الداخلية وهو محل جدل كبير في علاقته بعملية المنيهلة الإرهابية مما يجعله قابلا للتطويع والتوظيف السياسي من مراكز النفوذ الجهوي التي دفعت به إلى منصب الوزير-، وهي حكومة حرب خطاب يعارض التطبيع مع رموز المنظومة النوفمبرية ولا شك أنّ هناك رسائل كثيرة تسعى المنظومة الحاكمة إلى أن تبعث بها لأكثر من طرف عبر الإصرار رسكلة رموز نظام بن علي -مثل حاتم بن سالم وعادل الجربوعي ورضا شلغوم ورضوان عيارة-، ويمكننا أن نفترض أنّ هذه الرسائل موجهة لأكثر من طرف:
الرسالة للشعب التونسي: ها قد عدنا يا أيتها الشبكات الزبونية-الجهوية وستستعيدين مجدك رغم أنف الديمقراطية -بل بفضل الديمقراطية بعد أن نفصّلها على مقاسنا كما فعلنا سابقا-… وها قد عدنا يا بوعزيزي ويا سكان الدواخل والقواحل، وسنُذلكم بـ”الكفاءات” التي سبق لها إذلالكم قبل الثورة، رغم أن لنا في “قائمة الانتظار” ما يغنينا عن ذلك.
الرسالة لحركة النهضة: ستحكمون معنا -أو بالأحرى سنحكم بكم لأن ذلك أقل كلفة من الحكم على أجسادكم- ولكن يجب أن تقبلوا بأن تكونوا شركاء في حكومة يمثلنا فيها وزراء وكتاب دولة كانوا جزءا من المنظومة التي أذاقتكم الأمرّين، واعلموا أنّ “الشرعية الانتخابية” التي أوصلتكم للحكم لا معنى لها خارج “شرعية المنظومة” أو الاعتراف من “المسؤول الكبير” ووكلائه في الداخل.
الرسالة للقوى الإقليمية والدولية: نكاد نغلق “مُعقّفي الثورة” (أو “الهُوجة” كما أسماها الرئيس نفسه، وهو الذي لم يعترف يوما بالثورة ولا بشهدائها إلا كُرها)، وينبغي لكم دعمنا في فرض الديمقراطية الصورية وأن تعطونا غطاء دوليا لشرعنتها أمام الرأي العام العالمي وأساسا أمام الجهات المانحة.
3. حكومة حرب على الانتقال الديمقراطي الذي أصبح واقعيا رهين نظام رئاسوي لن يسمح بإجراء أية انتخابات ما لم يضمن نتائجها مسبقا، أي ما لم يضمن المتنفذون في قرطاج نتائج لا تمس من هيمنة العائلات الكبرى ولا تهدد مصالح المركّب الجهوي-المالي-الأمني الذي لا يتجاوز دورهم دور الواجهة الحزبية له. وهو ذلك المُركّب المافيوزي الذي تغوّل بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 ورجع إلى السلطة -بعد اختلال جزئي وأزمة ظرفية أعقبت الأيام الأولى للثورة- وذلك عبر اللعب على تناقضات الطبقة السياسية -خاصة الإسلاميين واليساريين- وتوجيهها لخدمة مصالحه المادية والرمزية: من الناحية المادية خدمة النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة قبل الثورة بجناحيها الساحلي والبلدي، ومن الناحية الرمزية الخضوع للمرجعية البورقيبية والتوافق حول الأساطير المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي-.
خطاب التوافق أو ما دون البانكيمونية
كثيرا ما تندّر العرب -ومعهم التونسيون- بتدخلات الأمين العام السابق للمنتظم الأممي الكوري بان كي مون. فمهما كانت المصائب والمآسي التي استوجبت تلك التدخلات -خاصة فيما يهم الشأن العربي-الإسلامي-، كان الغالب على خطاباته هو “الشجب” و”الإدانة” و”الاستنكار” وغيرها من المفردات التي قد ترفع عنه شيئا من الملام ولكنها لا ترفع مظلمة عن أحد. وهو ما يسمح لنا بنحت مصطلح “البانكيمونية” باعتبارها تلك الخطابات التي مهما ارتفع سقف حدّتها وقويت شوكة “مجازاتها”، فإنها لا تُغيّر من موازين القوى في الواقع الذي تدعي التدخل فيه شيئا.
ولو أردنا استقراء الخطاب النهضوي في مسألة التوافق مع نداء تونس ومع رئيسه الشرفي الباجي قائد السبسي، فإننا سنلاحظ غياب أية مسافة النقدية قد تسمح بكلمات من قبيل “تندد” و”تشجب” و”ترفض”، بل إننا سنلاحظ ما هو أشد من ذلك، إذ لا يسمح “العقل التوافقي” بمرور حتى كلمات من قبيل “تهيب” و”تدعو”، اللّهم إلا إذا كانت تلك المفردات متوجهة لدعم “التوافق” -كما جاء في البيان الأخير الصادر عن المكتب التنفيذي للحركة بتاريخ 06 سبتمبر 2017. وفي ظل غياب الأفق البانكيموني في أغلب مفرداته، تحضر مفردات “مادون بانكيمونية” تدور أساسا حول مفردتي “التثمين” و”الدعم” باعتبارهما مظهرا “أوحد” للتوافق. فالنهضة “تثمّن حركة النهضة حرص رئيس الجمهورية على تحقيق المصالحة الشاملة وترسيخ الوحدة الوطنية بين التونسيين (…) تجدّد دعمها لمسار التوافق الوطني وتمسّكها بمقوماته وخصوصا مع حركة نداء تونس والعائلة الدستورية كما تدعو كل الأطراف السياسية إلى الالتفاف حوله”.
كي نفهم “العقل التوافقي” في حركة النهضة بصورة أفضل، يجب علينا أن نستحضر ما قاله “شريكه” الرئيس الباجي قائد السبسي في حواره مع جريدة “الصحافة اليوم”: “أردنا جلب النهضة لخانة المدنية ويبدو أننا أخطأنا التقييم”. ولو أردنا قراءة هذا الجزء فقط من تصريحات الباجي (دون أن نستحضر حديثه عن اضطراره للتحالف مع النهضة بشروطه هو لا بشروطها، ودون أن نتذكر حديثه عن رغبته في تعديل نظام الحكم إلى نظام رئاسي، ودون التذكير بمواقفه السلبية من الهيئات الوطنية المستقلة)، لو ركزنا فقط على هذا الجزء من حوار رئيس الجمهورية لوجدنا صعوبة كبرى في فهم المنطق الذي يحكم “العقل التوافقي” الذي كتب بيان المكتب التنفيذي للحركة.
فأين ترى حركة النهضة موقعها في “حرص” رئيس الجمهورية على “المصالحة الشاملة”، وكيف تفهم الحركة “شك” حليفهم في سوء تقديره لمدنية الحركة وهو الذي لم يشك يوما في إجرام “كفاءاتهم” وفي ضرورة تطبيق القانون عليهم بدل تمتيعهم بمعاملة تفضيلية عبر مبادرات تشريعية غير دستورية، وأين هي الوحدة الوطنية في ظل نظام كل ما فيه ينطق جهوية وزبونية وتبعية، وما معنى “التوافق” عندما يكون أحاديّ الوجهة ولا يشتغل إلا لفائدة طرف دون الآخر -بل لا يشتغل إلا ضد انتظارات المواطنين حتى في حد الأدنى الإصلاحي-، وأين ترى النهضة عائلة دستورية خارج تلك الزمر التجمعية البائسة التي غيرت “لافتة المحلّ” ولم تغير المنتوج -وهو أساسا الفساد والمنطق الجهوي-الزبوني-، ولماذا تصرّ النهضة على الارتباط “الوجودي” بنداء تونس والحال أنّ هذا الحزب هو مثال “للحزب الشركة” أو “الحزب العائلة” الذي لم يجد فيه الكثير من مؤسسيه موطئ قدم لحرية التعبير وللتداول على المسؤوليات وللاحتكام إلى المؤسسات؟
إنها جملة من الأسئلة التي يعلم كاتب المقال يقينا أنها لن تغير شيئا في سياسات حركة النهضة -فمن المرجّح أن تذهب بالتوافق مع العائلة الدستورية إلى الحد الأقصى الذي تقبل فيه حتى بمشاركة عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر وغيرها ممن لا يدخرون جهدا في إظهار العداوة لها والغلوّ فيها-، ولكنّ كاتب هذه السطور يطرحها تمهيدا لسؤال يقال إن أحد وزراء هذه الحكومة طرحه باللهجة التونسية عندما كان عميدا لكلية الطب بإحدى المناطق الساحلية: “علاش أولاد المناطق هاذيكه يقراو الطب” (أي لماذا يدرس أبناء تلك المناطق -الداخلية- الطب؟.. ولا شك في أنّ هذا الوزير سيجد في الحكومة وزراء كثيرون يشاركونه المنحدر الجهوي نفسه، والرؤية الاستعلائية ذاتها لأبناء الدواخل والقواحل من المفقرين الذين جعلتهم “الثورة” أندادا له ونظراء، ولا شك أيضا في أن هؤلاء جميعا قد ينظرون يوما إلى النهضويين الذين يزاحمونهم المجالس “الوزارية” وغيرها، وقد يتساءلون تساؤلا لن يكون فلسفيا بالضرورة: “لماذا يحكم أبناء تلك المناطق معنا؟”، وعندها لن يكون هناك متسع للدهشة الفلسفية ولا لغيرها من “الحكمة اللدنية التوافقية”.
لو أردنا أن نختزل هذا المقال في نقطة جوهرية فإننا سنقول بأنه نقد للبنية الجهوية للسلطة والثروة. ونحن إذ نقوم بذلك فإننا نصف واقعا موضوعيا، ولا نتحرك من موقع جهوي مضاد، بل من موقع مواطني اجتماعي يعي جيدا أن أوّل ضحايا هذه البنية التسلطية هم من يُسمّى بأبناء المناطق “المحظوظة” التي ينحدر منها أغلب المتنفذين في النواة الصلبة للنظام الحاكم. ولذلك فإن أي حرف للأفهام -بما فيها أفهام إخوتنا في الساحل والعاصمة- عن مطلب إعادة توزيع أكثر عدلا للسلطة والثروة -في نظام يتقاسم فيه المناصب السيادية كلها تقريبا شخصيات تنحدر من الساحل أو من بلدية العاصمة-، هو مجرد تلهية وتلبيس، وهو جزء من استراتيجيات تكريس واقع التفاوت الجهوي والفئوي وشرعنته بدعوى الحفاظ على وحدة وطنية لا توجد إلا في مجازات الحكام لا في أفعالهم.
“عربي21”

Exit mobile version