الهادي بريك
تونس حالة عربية متفردة بوضعها التاريخي المركب إذ قادت حملة التغريب يوما بلا هوادة بمثل ما قادت حملة التشريق -نسبة الى الشرق بالمفهوم الحديث ومقابلة للتغريب- برشد فكان من ذا تميز لحالة من حالات النشاز العربي ضمن تنافس تدافعي بين جناحي الأمة العربية: جناح مشرقي يعالج الحداثة بالدفاع وجناح مغربي يتقحم أسوار الحداثة بالهجوم.
هذا الحراك الفكري مطلوب على طريق الثورة: قبل أسابيع بادر الرئيس بتحريك مياه راكدة أحدثت رجة مطلوبة وبعده جاءت مبادرة الشيخ الغنوشي لتعطي لهذا النفس السجالي الثري حياة جديدة فلا تهم اتجاهات المبادرات بقدر أهمية استثمار منحة الحرية التي لا تأتي إلا بخير حتى لو عصفت ببعض الموروثات او نخلت بعض المحدثات.
الأحباس نظام أهلي لا ديني
مازالت العلاقة بين الأهلي والديني تتلمس سبيلها فينا إذ أن عقود الكبت المنصرمة كانت محقونة بالصراع الأيديولوجي غير المتكافئ ومن هاب شيئا يعسر أن يظن أن الوقوع فيه بوعي ادنى علاجا.
طلاب الفقه بمعناه الصحيح يدركون أن التشريع الإسلامي جاء بمساحتين تتكاملان ولا تتقابلان: مساحة دينية فردية لبها التحرير قبل التعقيد وأسبق من التديين ولا سلطان عليها عدا سلطان الضمير والا تسنت سبل مأسسة النفاق. ومساحة دنيوية يغلب عليها الفراغ التشريعي والعفو إذ فوت فيها ضمن مقاصد مرعية عقلا الى المجتمع الأهلي يملأها بما يناسب المصلحة والضرورة والحاجة. ترجمة ذلك بلسان اليوم: الحياة العامة شان أهلي ويقتصر الدين فيه على توليد التقوى وضخ الورع كما يكون السلطان هنا اجتماعيا. اذا التقيت هنا مع تخوم العالمانية فلا تتوجس لان العقل مصدره واحد ومشكاة التشريع في الإسلام الدنيوي المجتمعي العام معقولة مفهومة معللة مقصدة. ولا أظن أن مجتمعاتنا العربية منهكة بسبب العالمانية فكرة إنما نخرها الاستبداد المتدثر بالعالمانية إنما هي التطاحنات الأيديولوجية التي تنشئ أكباشا نطاحة وليس فرسان حوار.
الأحباس اختراع إسلامي قح
نحن أمة حبتها الجغرافيا ونكبتها أيام التاريخ الذي نزعم انه مفترى عليه وما افترى عليه سوانا. حض التشريع على الأوقاف قرآنا وسنة ولو كانت الأوقاف شأنا دينيا بما تلبس بالدين من تيوقراطية غربية لكانت واجبا دينيا ولكنها شأن دنيوي يرعاه الإسلام الجامع. وحتى بعد الانقلاب الأموي ظل نظام الأحباس مؤسسة أهلية. -مدنية بالتعبير الوافد- ترعى حاجات ثلاث حددها الحديث: الأسرة (ولد صالح) والعلم وتمويل المشاريع الاستثمارية المنتجة (صدقة جارية). وبذا وقع امتصاص الفراغ الذي أحدثه ذلك الانقلاب بما حصن المجتمع ضد الغزو الخارجي وتمدد السلطة. يحمل إلينا التاريخ اندياح الأحباس حتى شملت الكلاب الضالة والقطط.
الغرب المعاصر اقتبس النظام
في أوروبا اليوم ما لا يحصى من المؤسسات الوقفية (Stiftung). وكثير منها ترعاه الكنائس. تلك هي العلاقة السوية بين الدين والمجتمع من جهة وبين الدولة والدين من جهة أخرى.
بورقيبة والأوقاف
بورقيبة خصم ثقافي عنيد ولكنه خصم ذكي والذكاء محمود دوما ورب خصم ذكي خير من صديق احمق. ذكاء بورقيبة الذي به ألغى الأحباس تذريرا لدفاعات المجتمع وتركيزا للدولة احب الي من غباءين: غباء يظن أن إعادة الأحباس تطبيق للشريعة وغباء يظن انه ثأر من الإرث البورقيبي.
بنظام الوقف تتحصن الثورة
المقصد الاسنى من الوقف هو تحصين المجتمع ضد أي غوائل محتملة من سبب خارجي أو حبل داخلي. مهمة الوقف هي ملا الفراغات الاجتماعية والاقتصادية التي تقصر دونها الدولة. الوقف مثل سنام الإبل حيث الخزان الاحتياطي.
والله اعلم