عبد اللطيف علوي
مثل كلّ الأطفال في تلك السّنّ، لعلّها كانت الخامسة، أو السّادسة إلاّ ربع، كان يحيّرني كثيرا سؤال: كيف جئتُ إلى هذه الدّنيا؟
سألت أبي مرّة، فقال لي بمزاح يشبه الجدّ:
ــ أنت ابن “الصّاروخ” لقد وجدناك في زنبيله، (الزنبيل يوضع على ظهر الحمار ويتكوّن من جرابين كالقفّتين)
والصّاروخ هذا كان بائعا متجوّلا، يزور قريتنا من شهر لآخر، ليبيع أشياء كثيرة غير متجانسة كالقماش والأواني والسواك واللّوبان ولعب الأطفال والبخور والشّمع والفلاّيات إلخ إلخ إلخ… يسمّونه الصّاروخ لأنّه طويل جدّا، أطول من عشيّة رمضان، ومقوّسا كالمنجل وحادّ الملامح، كان مخيفا جدّا لنا نحن الصّغار، إلى درجة أنّنا في اللّيل لا نستطيع الخروج لقضاء حاجتنا في الخلاء إلاّ في حفلات جماعيّة، فمن يدري؟ لعلّ الصّاروخ يكون كامنا لنا في عريش القصب، أو خلف صفّ الهندي أو ملتصقا بجذع الكالتوسة الطّويلة، وحين يريدون إخافتنا كي ننام، كان يكفي أن يتظاهروا بمناداة “الصّاروخ”، فتيبس أطرافنا ونلتصق ببعضنا كفراخ السّمانى…
بدا لي الأمر مرعبا جدّا، أن أكون قد مررت بزنبيل الصّاروخ، وخرجت حيّا… فهذا في حدّ ذاته أمر جيّد، لكنّه قد يفكّر ثانية في أن يرجعني إلى زنبيله لأيّ سبب من الأسباب…
كنت أحتاج إلى مزيد من التّفاصيل، فسألت أمّي، لكنّها فاجأتني هي أيضا بقولها: لقد نزلت من بطني!
يا للورطة في هذه العائلة الغريبة! كيف أكون قد نزلت من بطنها ورأسي بهذا الحجم وبطنها مغلق بالكامل وليس فيه سحّاب مثل المحفظة! ومن أين جئت إلى بطنها وما علاقة الأمر بالصّاروخ، وكيف أكون قد قضيت ما قضيت هناك جالسا كجرو صغير رافعا رأسي إلى أعلى فاتحا فمي أتلقّف كلّ ما ينزل من فمها وأبتلعه…
عدت إلى أبي وسألته ثانية:
– ما الّذي أدخلني إلى بطن أمّي بعد أن كنت في زنبيل الصّاروخ؟
فغضب ونهرني قائلا:
– إيّاك أن تطرح هذا السّؤال مجدّدا. هذا حرام!
حيّرني جوابه أكثر، وشعرت أنّ هناك مصيبة كونيّة كبرى كانت هي السّبب في قدومي إلى هذا العالم، وإلاّ لما غضب أبي من سؤالي. وعوض أن يصرفني عن التّفكير في الأمر، اشتدّ بي الفضول أكثر لأعرف تلك المصيبة،
بدأت أستجمع بعض العناصر الّتي يمكن أن تساعدني على تلمّس الإجابة وبدأ الأمر يتّضح شيئا فشيئا: لقد جئت إلى الدّنيا بسبب مصيبة كبرى غامضة قذفت بي من زنبيل الصّاروخ إلى بطن أمّي، ولا بدّ أن أعرف تلك المصيبة الّتي يخاف منها الجميع أو يخجلون أو لست أدري…
عندما تضيق بنا الدّنيا كنّا نلجأ إلى “داده”، فلم يكن غيرها يشفي غليلنا بالجواب السّهل المقنع المغلّف بطبقة رهيفة جدّا من الحنان مثل شكلاطة باردة. سألتها فقالت لي:
– لقد وضعك الله في بطن أمّك، وبعد أشهر أخذناها إلى المستشفى وأخرجك الطّبيب، والطّبيب مثل السّاحر، يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة يعجز عنها الآخرون… أمّا حكاية الصّاروخ فليست سوى مزحة من أبيك…
راقتني إجابتها فاطمأننت قليلا، وشعرت ببعض الارتياح على الأقلّ لأنّ “الصّاروخ” لم يحملني يوما في زنبيله القذر، ولن يفكّر يوما في استرجاعي، ولم تكن هناك مصيبة كونيّة كبرى مثلما أوحى إليّ بذلك كلام أبي…
بعد أيّام، كنت ألعب في الجنان مع ابن خالي وعمّي (الّذي هو في مثل سنّي: كم هو مرهق دائما أن أضطرّ إلى هذا التّوضيح في كلّ مرّة)… وأذكر أنّ الحديث دار بيننا في متاهات كثيرة، حتّى وصل إلى ذلك الموضوع، فأجبتهم بيقين بما أخبرتني “داده”، لكنّ ابن خالي اللّئيم فاجأني بقول لم يخطر لي على بال…
قال لي إنّه طرح على أمّه نفس السّؤال، وكانت امرأة في غاية الطّرافة والمرح، فأخبرته أنّها فعلت مع أبيه مثلما تفعل البقرة و”العاصي” (العجل الّذي يبلغ القدرة على الإنجاب)… وأخبرته أنّ كلّ الرّجال والنّساء يفعلون نفس الشّيء كي ينجبوا الأبناء…
صعقت، وصمتّ كأنّ لساني قد عقد فجأة على حفنة من الشّوك، وزاغ خيالي إلى ذلك المشهد الفظيع… أبي وأمّي؟؟؟ يا للمصيبة! كان أبي على حقّ إذن… كانت تلك هي المصيبة الّتي أتت بي إلى الدّنيا.
في الحقيقة لم يكن ما يحدث بين المواشي الّتي نربّيها أمرا يلفت الانتباه أو يدعو إلى التّحفّظ بين أفراد العائلة، فقد كنّا في أريافنا نشاهد عمليّات التّزاوج بينها بلا فضول أو حياء، أحيانا في ساحة البيت وعلى مرأى من كلّ أفراد العائلة، الأبناء والآباء والأجداد، بل كان الإنسان يتدخّل أحيانا في تلك العلاقة لييسّر ما استعصى منها ويكبح البقرة أو النّعجة المتمنّعة أو الجامحة ويرغّب ويربط علاقات الودّ بين العريس والعروس، بالصّفير أو بالكلام أو بغيره، وكنّا نتابع المشهد بكلّ اهتمام ووقار، الشّيء الوحيد الّذي كان يضحكنا ويجعلنا نتغامز بشقاوة هو الحمار، حين يعلن الحمار عن نواياه الطّيبة وما أدراك ما نواياه…
كلّ ذلك كان يتمّ بشكل طبيعيّ وعاديّ في حضرة الجميع فلا يستحقّ منّا لفتة أو ضحكة أو غمزة، كان نوعا من الفلاحة الحيوانيّة لا أكثر ولا أقلّ، مثل الزراعة والحراثة والسّقي، ونتيجة تلك العلاقة ستكون في النّهاية محصولا كغيره من المحاصيل في رصيد الفلاّح، لا أكثر ولا أقلّ… أمّا أن يحدث ذلك بين البشر، فكان أمرا صادما جدّا ومخيّبا وخادشا لصورة أبي وأمّي بشكل فظيع…
حين عدت إلى البيت، وضعت أمّي العشاء فأشحت عنه، وظللت أنظر إليها بطرف عين حزينة غاضبة… لقد خانتني وطعنتني في الظّهر، وأنا الّذي تصوّرتها ملاكا نزل من السّماء ليعتني بي وحدي، لا ليلعب لعبة البقرة و”العاصي”. أمّا أبي، فبقيت مدّة طويلة بعد ذلك لا أكلّمه، وأتحاشى المرور أمامه، خوفا من أن ينطحني.