بشير العبيدي
#أقولها_وأمضي
أخبرني شابّ ليبيّ يحفظ من القرآن، ولي ثقة في صدقه قال: أنه ترعرع في أسرة محافظة، وكان له تِربٌ من الأقرباء يقاسمه أوقات الطفولة البريئة، ويشاركه اللعب والدّعابة والعبث، ويبادله المودّة والصفاء.
وفجأة، “تديّن” هذا القريب الحبيب فغيّر من هيأته وشكل لباسه، وبدّل طريقة كلامه، وانغلق في منطق طهوريّ استعلائيّ مخيف، وكان بادئ أمره يُضرب به المثل في حب العمل والاجتهاد والحيويّة، وكان يجني من عمله مردودا وفيرا، فترك كلّ ذلك لما تغير، وجعل نصب عينيه نصّ الحديث النبوي “وفتنة أمتي المال”، فترك عمله وتغيّرت حاله، وقلّ ما بيده، وتبدّل مع أترابه، فصار ينكر عليهم سماع الموسيقا أشدّ الإنكار، ويتكلّم في الشّركيات، وفي عقيدة الولاء والبراء، وتركهم وانعزل عنهم، وبالجملة، صارت الأيديولوجية الوهابية ديدنه، والغلوّ سمته، وصار يكفّر النّاس، ويضيق ذرعا باعوجاجهم، ولا يرى فيهم إلا منحرفين، خارجين عن سواء السّبيل. فترك ذلك أعظم الأثر في نفس صديقه الذي لم يفهم سبب كل هذا الانقلاب في السّلوك، ولم يهتد لمعرفة علّة كلّ ذلك، خصوصا والأسر التي عاشوا فيها أسر تحفظ القرآن، وتراعي الدين، وتتآلف مع محيطها، وتجمعها بالأرض والنّاس وشائج قويّة ومحبّة أصيلة.
ولقد صدق هذا الشّاب الليبي الذي لم يقع على وجه منطق يفسّر به هذا الانقلاب الكامل على المجتمع، ولم يستطع أن يفهم سببا لهذا العنف في القطيعة التي لا مبرّر لها. فكثير من شباب العرب خاصّة يعيشون أوضاعا من البؤس الفكري والقيمي والاجتماعي يجعلهم لقمة سهلة لأيديولوجية الوهابية التي توحي لأتباعها أنها تنسف كلّ شيء وتبدأ بناء الإسلام من الصّفر. إنه المنطق الصّفري الدّاعشي الذي تشكّل داخل المجتمعات العربية، وراجت سوقه عبر وسائل الإعلام وشبكة المعلومات، وذلك بسبب الفراغ الذي تركته المجتمعات في عقول شبابها: والفراغ تأباه الطبيعة، فلما تقاطعت سبيل هذا الشاب مع سبيل متطرّف مغال في الدين، تحرّكه وتوجّهه أجهزة المخابرات الموصولة بأنظمة استبدادية متصهينة، استطاعت اختراق العقول والقلوب، واستنبات أيديلوجية عدمية صفريّة، تزعم لأتباعها كذبا وبهتانا أنها تضمن لهم الجنّة إن هم اتبعوا سبيلها، وما هي بضامنة شيئا، ولكن الشّباب يقعون في حبائل حركات أكبر بكثير مما يمكن أن تفهمها عقولهم البريئة ونفوسهم الطيبة، إنّها حركات تتلقى تمويلا بالمليارات في العالم، هدفها الأول والأخير صيد الشباب المتحمّس وإسقاطه في البؤس الفكري والقيمي الذي يساهم في مزيد تخلف العرب والمسلمين، وكل ذلك تحت دعاية التديّن، وما هو والله بتديّن ذاك الذي يقطع مع الأهل والأسر والأتراب والمجتمع، إنّه ضلال في ضلال.
وليكن في علم الشّباب: أنّ أغلب الذين يروّجون هذا الخطاب الصفري والمغشوش والمزيّف في وسائل الإعلام، وفي الشبكات، وفي المواقع، ويكفّرون النّاس، مثلهم مثل الذين يروجون العلمنة والانبتات والانسلاخ عن القيم الروحية للمسلمين، هم أناس يتلقّون تمويلا كبيرا من الدول والمنظمات لأجل ترويج خطابهم العدمي هذا، لأن هذا النّمط من التديّن الحطبي أو التعلمن المتطرّف، هو الضّمانة الوحيدة التي تبقي على الاستبداد الصهيو-عربي في كراسيه، والضمانة الوحيدة التي تبقى الاستعمار الأجنبي آمنا من حصول نهضة علمية عربية اسلامية.
التديّن الحقّ علامته الحبّ والقرب والعطف والشفقة… وجوهره رؤية مبنية على الإتمام للكون والإنسان والألوهية تسير في سياق: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق…
ونشر العلم والتوعية والحوار العميق مع الشباب كفيلة بالحدّ من آثار هذا النّزيف الذي أنهك جسم الأمة. وليس من الصّعب الإقناع، فإن هذا الفكر الحطبي العدمي لم يؤسس مجتمعا ولا حضارة أبداً، ولم يدخل إلى بلد إلا وتركه خراباً وعذاباً.
✍ #بشير_العبيدي | ذو الحجة 1438 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |