بشير موسى نافع
حقق التيار الإسلامي الأردني فوزاً ملموساً في انتخابات البلديات ومجالس المحافظات الأردنية، التي عقدت في الأسبوع الماضي. إضافة إلى نجاح مرشح إسلامي برئاسة بلدية الزرقاء، ثاني أكبر مدينة أردنية، فاز نصف مرشحي القائمة الإسلامية المشكلة من الإخوان المسلمين وحلفائهم في المقاعد التي نافسوا عليها. أغلب الفائزين الآخرين كانوا من المرشحين العشائريين المستقلين، أو الشخصيات المدعومة حكومياً؛ ولم يستطع أي حزب أو جماعة سياسية أخرى تحقيق نتائج تذكر.
قبل عامين فقط، كان معلقون عرب، وما بات يعرف بخبراء شؤون الإسلام على جانبي الأطلسي، يكتبون شهادة وفاة التيار الإسلامي في الأردن، وفي المجال العربي برمته. إثر الانقلاب العسكري في مصر، وانطلاق رياح الثورة المضادة في دول الثورات العربية، تعرض الإخوان المسلمون الأردنيون لأكثر من حادثة انشقاق، أغلقت مكاتبهم في أنحاء البلاد، وسارعت الدولة الأردنية للاعتراف بمجموعة منشقة صغيرة ممثلاً للجماعة. وبدا أن طموحات عدد من الشخصيات الإخوانية السابقة، والحملة الرسمية، معاً، نجحت في وضع نهاية للجماعة الإسلامية التي تعود في جذورها الأردنية إلى أربعينيات القرن الماضي. في الانتخابات الأخيرة، نهضت الجماعة الأم من جديد، وتلاشت المجموعات المنشقة كلية، تقريباً. فأي دلالات يحملها الحدث الأردني؟
ما يقوله خبراء نهاية التيار الإسلامي السياسي أن الأردن ليست مصر، ولا هي تونس أو الجزائر. فإلى جانب المشتركات العربية التي لا يمكن إنكارها، طور كل بلد عربي، منذ ولادة الدولة الحديثة في نهاية الحرب الأولى، سماته الخاصة، ويمر بسياق يختلف، بهذه الدرجة أو تلك، عن سياقات الدول الشقيقة الأخرى. ما ينطبق على الأردن، يقول هؤلاء، لا ينطبق بالضرورة على مجمل دول المجال العربي. وهذا صحيح بالتأكيد، ولكن هذا ما أغفل تماماً في نبوءات النهاية القاطعة، التي سادت قراءات الخبراء والمراقبين في الأعوام الأربعة الماضية. فاز مجموع القوى الإسلامية معاً بما يزيد عن 70 بالمئة من أصوات مقاعد برلمان الثورة المصرية الأول، والوحيد، في 2012. في العام التالي، أطاح الانقلابيون بالرئيس المنتخب، وأوقفوا عملية التحول الديمقراطي. جاء الرئيس المصري، د. محمد مرسي، من خلفية إخوانية، ولكن المؤكد أن الانقلاب كان سيقع سواء كان الرئيس إخوانياً أو غير ذلك. العرب الذين شجعوا على الانقلاب وعملوا على توفير الدعم للانقلابيين رأوا في حركة التحول الديمقراطي، وليس في الإسلاميين وحسب، خطراً عليهم. وليس ثمة شك أن موقف هذا المعسكر من العرب من الحراك الثوري الديمقراطي، في مصر والعالم العربي ككل، ما كان ليتغير، بغض النظر عن الصعود الإسلامي الذي تحقق بعد 2011.
كانت مصر هي البداية، بالطبع، ولكن رياح الثورة المضادة لم تلبث أن طالت كافة بلدان الثورة العربية، من تونس وليبيا، إلى اليمن وسوريا والعراق. وحدها المغرب، التي تقدمت خطوات على طريق التحول الديمقراطي بدون حراك ثوري واسع، حافظت على استقرارها وعلى إنجازاتها الديمقراطية. وربما مثل الأردن استثناء في الحالتين. فمن جهة، وبالرغم من أن الأردن شهد حراكاً شعبياً ملموساً، نجح النظام في احتواء هذا الحراك وإجهاض مطالب التحول الديمقراطي. ولكن لا أوساط النظام في الأردن، ولا قوى الثورة المضادة العربية، غفرت للإسلاميين مشاركتهم في الحركة الشعبية. ولذا، فما إن بدأت قوى الردة العربية حربها ضد قوى الثورة والتغيير، حتى أصبح الإسلاميون الأردنيون هدفاً للانتقام.
لم تكن حركة الثورة العربية إسلامية في منطلقها، حتى في البلدان التي لعب فيها الإسلاميون دوراً رئيسياً. ولكن ما حصده الإسلاميون خلال فترة التحول الديمقراطي القصيرة كان أكبر بكثير من القوى السياسية الأخرى. يعود أحد أسباب الصعود الإسلامي السياسي خلال الفترة بين 2011 ـ 2013 إلى ضعف وتحلل القوى السياسية الأخرى، سواء بفعل تذيلها للأنظمة الحاكمة، أو فقدانها المقومات الذاتية للصمود أمام الدكتاتوريات العربية. كان الإسلاميون العرب، في تيارهم الرئيسي، ومنذ التسعينيات، على الأقل، تبنوا برامج سياسية ديمقراطية، وأصبحوا أكثر استعداداً للعمل في مناخ من التعددية السياسية. ولا يقل أهمية أن الوعود التي حملها الخطاب السياسي للقوى الإسلامية العربية أوحت بمصداقية تفوق تلك التي أطلقتها الجماعات السياسية الأخرى، سواء في محاربة الفساد والتسلط، أو تحقيق العدل والكرامة الإنسانية. ألم يكن الإسلاميون في مقدمة ضحايا الدولة العربية الحديثة منذ ولادتها؟
الصعود غير المتوقع، في معظم الأحيان، للتيار الإسلامي السياسي، الذي واكب اندلاع حركة الثورة والتغيير، جعل الإسلاميين هدفاً رئيسياً للثورة المضادة، تماماً كما عملية التحول الديمقراطي ذاتها. وهذا ما أوقع خسائر فادحة في صفوف الإسلاميين ووضعهم الشعبي، خسائر بشرية وتنظيمية، وخسائر معنوية. تعرض الآلاف من الإسلاميين، في أغلب الدول العربية، للاعتقال أو النفي أو الاغتيال، صودرت ممتلكاتهم ومؤسساتهم الإجتماعية والتعليمية والاقتصادية، وألصقت بهم كافة التهم والمساوئ. أوقعت بالإسلاميين، بكلمة أخرى، هزيمة فادحة، وليس غريباً أن تظهر قواهم السياسية بمظهر المهزوم. ولكن الهزيمة شيء، وافتراض الموت والنهاية شيء آخر.
ثمة مسألة إسلامية تسيطر على حياة العرب، وكافة شعوب المشرق، الفكرية والثقافية والسياسية، منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وسواء في حقبة الاستعمار المباشر، دولة ما بعد الاستقلال، أو دولة الأنظمة الدكتاتورية السافرة، لم تتم الإجابة على سؤال موقع الإسلام ودوره في المجال العام. أو، بكلمة أخرى، لم يتطور إجماع كاف في المجتمعات العربيةـالإسلامية حول إجابة لهذا السؤال. وطالما ظل سؤال الإسلام يطارد المجتمعات العربيةـالإسلامية، سيظل هناك مسوغ لوجود التيار الإسلامي السياسي. التيار الإسلامي السياسي، بهذا المعنى، ظاهرة تاريخية، وثيقة الصلة برياح التحديث التي اجتاحت المجتمعات العربيةـالإسلامية خلال القرن ونصف القرن الماضيين. ليس هناك من تقديرات قاطعة، بالطبع، ولكن شواهد متعددة في المجال العربي ككل تشير إلى أن الإسلاميين يحتفظون بقاعدة صلبة، تدور حول 30 بالمئة من التأييد الشعبي. في مناخ حر، آمن وديمقراطي، يمكن للقوى الإسلامية أن ترفع نصيبها من التأييد إلى ما يزيد عن 50 بالمئة، وتصل إلى الحكم، منفردة أو في تحالف. في مناخ من القمع والمطاردة، يعود تأييد هذه القوى إلى مستوى القاعدة الشعبية الصلبة.
بيد أن هناك بعداً لا يقل أهمية لاستمرارية التيار الإسلام السياسي، يتعلق بالخارطة السياسية لدول المجال العربي. ففي الأغلبية العظمى من الدول العربية لم تعد هناك قوى يعتد بها، يمكن لها أن تعطي للسياسة معناها، سوى التيار الإسلامي السياسي. يعود هذا المتغير في الحياة السياسية العربية لعدد من الأسباب، يصعب التطرق إليها في هذه المساحة المحدودة. ولكن نتيجتها لا يجب أن تخفى على أحد: التيار الإسلامي السياسي هو القوة الأساسية التي يمكنها مواجهة تغول الدولة وتسلط الطبقات الحاكمة. ويكفي النظر إلى الدول التي استطاعت فيها الثورة المضادة القضاء على، أو إضعاف التعبيرات السياسيةـالاجتماعية للتيار الإسلامي السياسي، كمصر مثلاً، وكيف عجزت الأنظمة الحاكمة أو القوى السياسية الأخرى، عن ملء الفراغ الذي تركته سياسات القمع والاجتثاث الخرقاء وباهظة التكاليف. هكذا وضع قد يكون سبباً في سرور البعض وحزن آخرين؛ ولكنه الواقع العربي السياسي، على أية حال.