المطبعون هل لموقفهم وجاهة تجعلهم مسموعين ؟
أبو يعرب المرزوقي
ما الذي يمكن أن يستنتجه أي ملاحظ من مكالمة ترومب لملك السعودية أول أمس؟
كان أمرا بتسليم الحكم لمحاربي الأساس الذي يستند إليه حكم آل سعود.
حدث في الخليج ما حدث في الشام والعراق: يحاولون أقناع الغرب بأن العدو هو الإسلام السياسي لكن الغرب اقتنع بحجج الشيعة والليبرالية. العدو هو الإسلام السني عامة سواء كان إخوانيا أو وهابيا. وقد ظن ممولوا الثورة المضادة أن حربهم على الإخوان بحجة الإرهاب كافية لنيل رضا الغرب. فجوهر التحريف الذي كان من البداية أصل الإرهاب في حضارة الإسلام أي الباطنية التي هي شرك يدعي حب آل البيت وافق هوى لدى القوى الاستعمارية. وعندي أن جل الليبراليين في الخليج اليوم مثلهم مثل الشيوعيين في العراق والشام هم باطنية لا تعلن عما تخفيه تقية تحريف الإسلام الموظف لآل البيت.
ونفس الشيء يقال عن الليبراليين واليساريين في تونس ومصر: فأغلبهم يعملون بما بينه الغزالي في فضائح الباطنية. التمركس مرحلة أولى نحو التثلك. وهي المرحلة التي يسميها الغزالي مرحلة الخلع الباطنية التي تخرج المرء من الإسلام أولا ثم تبشر بالدين البديل الذي هو توظيف للدين لحكم العامة. وحتى لا أظلم أحدا فسأفترض أن وجهة نظر الثورة المضادة قابلة للصمود أمام النقد إذا توفرت فيها شروط حاولت بيانها منذ مقامي في ماليزيا قبل 2005. افترضت أمرا (اعلم أنه مستحيل بسبب ما أعلم عن عقلية الحكام العرب) أن للعرب استراتيجية قابلة للمقارنة مع استراتيجية أمة تعلم كيف تخرج من كبوتها. وأولى مراحل هذه الاستراتيجية الاعتراف بالهزيمة العسكرية والحضارية مع المحافظة على المشروع الذاتي والاستعداد لإعادة بنائه بمراجعة أسسه. كذلك فعلت كل الأمم التي استأنفت دورها بعد أن هزمت وأمضت معاهدة تسليم بالأمر الواقع الميداني ثم شرعت في إعادة البناء بمراجعة علل الهزيمة.
وأذكر أني ضربت حينها مثالين: اليابان بعد الحرب الثانية وألمانيا بعد الحرب الاولى وحتى بعد الحرب الثانية. بهذا المعنى مستعد لسماع المطبعين. هل هم حقا يريدون التفرغ للبناء وتأجيل الصدام مع العدو والتسليم له بالنصر المؤقت فيكون له خطة مثل اليابان وألمانيا وحتى الصين لإعادة البناء؟ وقبل التقدم في التحليل فلأحسم أمر العلاقة بين الوهابية والاخوانية. إنها علاقة بين شرطين في كل بناء فقد أصحابها الوعي بطبيعة صلتهما الفعلية. وللعلاقة جذور سابقة حتى على وجودهما المتعين بهذين الاسمين: فالوهابية إذا كانت كما تدعي على النهج التيمي هي إدراك علة نكوص الأمة للوثنية. والوثنية هنا ليست صريحة لأنها بتوسط التصوف الشعبي الذي هو اختراق باطني للسنة (انظر ابن خلدون المقدمة) أعادت الوساطة وعبادة الأولياء والقبور. وبهذا المعنى فكل حركات المقاومة الإسلامية السنية في القرنين الماضيين كانت “وهابية” بمعنى مقاومة الوثنية الناتجة عن الطرق الصوفية الشعبية.
وهذا ما نلاحظ في سعي الغرب والثورة المضادة محاولة بعثه من جديد وخاصة عن طريق الجفري والإمارات جمعا بين هذا التصوف وليبرالية مؤمنون بلا حدود. وهم يستغلون طموح شاب جاهل وغر للوصول إلى حكم السعودية ولو بالحرب على أساس دولتهم لتسليم القرار السياسي للتشيع العلني والمتقي أو الليبرالية. الوهابية مرحلة لمقاومة الاختراق الشيعي للسنة بتوسط التصوف الشعبي الذي يحول الأمة إلى هنود حمر لا يتجاوز تدينها الرقص وتدخين الكالومي. والبقاء عندها موقف لا يرى من الفعل إلا مرحلته السالبة: فمن يبني بيتا يبدأ بإزاحة الخرب وأعداد الأرضية بمقاومة الوثنية التي اخترقت الإسلام. ومن ثم فالمفروض ان تليها المرحلة الموجبة التي تعيد بناء الأمة على أساس عقيدة الإسلام وشريعته المتحررة من عبادة الأوثان والحكام: حكم الشعب. وهذه هي مرحلة الإسلام الإخواني على الأقل من حيث المبدأ. طبعا لست واثقا من أن الاخوان ملتزمون بهذا المبدأ لأني لست منهم ولا أعلم دواخلهم.
حركة الإصلاح في القرن التاسع عشر جمعت بين الموقفين كما وصفتهما: ثورة على تخدير الشعب بوثنية التصوف شرطا للاستقلال وإعادة البناء بقيم الإسلام. والوهابية نكصت فعوضت الوثنية العقدية بالوثنية السياسية فأصبح “ولاة الأمر” شبه أوثان لا مرد لإرادتهم فعادت الإسلام وحاربوا المرحلة الموجبة.
بعد توضيح هذه العلاقة أعود إلى بيت القصيد من محاولة السماع للثورة المضادة وسعيها للتطبيع مع إسرائيل بدعوى محاربة إيران والإرهاب الإخواني. ولا يمكن أن تحارب إيران والاخوان بنفس المنطق: فأنت تحارب هؤلاء بأولئك. ذلك أن تمكن العالم من اعتبار الإسلام السني إرهابي يجعلك تحارب نفسك. ويكفي أن ترى أن ما به تحارب الربيع والاخوان هو عينه ما استعملته الباطنية منذ نشأتها ضد الإسلام السني: الاختراق الصوفي الشعبي ووهم التفلسف. وإذن فالذي يحارب الاخوان بالتصوف الشعبي والتفلسف الزائف هو في الحقيقة مجرد مليشيا إيرانية وإن لم يكن واعيا بذلك. ولعله واع وباطني متنكر.
فلو اعتبرت من ينتدبهم التشيع في تونس ومؤمنون بلا حدود عينة كافية للحكم على ما يجري لكفانا فضائح الباطنية تحليلا لفهم طبيعة الاستراتيجية. وحينها يتجاوز البحث مجرد الكلام في السياسية بمعنى مجريات الحكم إلى السياسة الثقافية. فهي أهم سلاح أداته الاختراق الصوفي والتفلسف الزائف. فتفهم لماذا أحدثوا مجلس “علماء” موازيا لاتحاد علماء المسلمين جمعوا فيه الكثير من عبيد العجل الذهبي ومثله دجال التفسير و”مؤمنون بالنقود”. ما اريد بيانه هو إذن انعدم الشروط التي تجعل الهرولة نحو التطبيع والحرب على الاخوان وحماس وعلى الربيع لا علاقة لها باستراتيجية إعادة البناء. فلا الإمارات ولا السعودية ولا خاصة مصر لهم هذه الشروط التي تتوفر لدى اليابان وألمانيا حتى يمكن بحسن نية افتراض انهم يسعون لإعادة البناء. كل ما في الأمر أنهم في مرحلة يأس بعد أن فهموا أن الثورة ستعم في الأعيان بعد أن عمت في الأذهان ومن ثم فسلوكهم علته الهلع والخوف على كراسيهم. والخائف لا يمكن أن يكون ذا استراتيجية إيجابية بل همه السياقة اليومية واستعمال ما لديه من مال لمحاولة إيقاف حركة التاريخ: وذلك أمر مستحيل.
لكن حتى لو افترضنا للإنصاف المبالغ فيه أن لهم خطة للاستئناف فإن شروطه الموضوعية منعدمة: ليس حجم هذه الدول من حجم ألمانيا أو اليابان. فلا يمكن للأقزام أن تصبح عماليق. هم أقزام ماديا (محميات) وأقزام فكريا (كلهم أقرب إلى الأمية يتلاعب بهم بلار لاورنس الجديد). العميل لا يبني. لما كتبت طالبا من العرب 2005 -قبل أن تنهار الجامعة نهائيا- كنت أعلق على مبادرة ولي العهد عبد الله: سألت هل وراءها خطة استئناف متفق عليها؟ لكن تبين أنها في الحقيقة بداية الخيانة التي نراها الآن تكتمل لتصبح أساسا لانطلاق ألسنة الأنذال في تجريم المقاومة وفرض التطبيع على الجميع.
أعلم أن تحليلي هذا مغرق في التجريد رغم كونه يعتمد على التاريخ بمستوييه حدثا وحديثا وهما ابعد ما يكون عن التجريد: جمع بين المفهوم والتاريخ. عندما تفقد الأمم هذه العلاقة بين المفهوم والتاريخ ينفرط عقدها وذلك هو أخطر الأدواء على حصانتها لأنها حينها تصبح قشة في مهب رياح الأهواء. وقد آليت على نفسي أن أحقق أمرين: الأول جبر الكسر للوصل بين ما تقدم على السبوت الشتوي الذي مرت به الأمة وما تلاه من محاولات الاستيقاظ. والثاني وهو الأهم ألا تبقى أحداث تاريخنا رسما في الرمال تذروه الرياح بل معالم تصمد كالأهرام بفضل الوصل بين المفهوم والتاريخ حصانة للأمة.