مقالات

المجال العمومي وإنتاج الديمقراطيّة في تونس (2)

عبد الله الزين الحيدري
(الجزء الثاني)
التربة السّياسيّة للمجال العمومي الميدياتيكي في تونس
(…) لم يكن هناك مجال في الفضاء العمومي الميدياتيكي لمناقشة المشاريع الاجتماعيّة والتوجّهات الكبرى للدولة، والسياسات الاقتصاديّة التي تضعها الحكومة، بقدر ما كان المجال يتسع لتثمين المشاريع والمخطّطات التنمويّة، ويذكّر المجتمع بنجاعتها من خلال هندسة برامجيّة، إذاعيّة وتلفزيونيّة يشرف على تنفيذها، فضلا عن بعض الإعلاميين، مفكّرون وجامعيون. وهكذا ظلّ المجال العمومي الميدياتيكي على امتداد نصف قرن، السّاحة الفكريّة والثقافيّة التي تسكنها الدولة وتدير الألعاب البلاغيّة الجارية بها لتحصين دواليبها وحماية رموزها السّياسيّة وتحقيق الضبط الاجتماعي، تحت مسمّى الأهداف السامية للدولة. ولقد نطق بذلك الرّئيس الرّاحل بورقيبة حين خاطب الشعب التونسي يوم 31 ماي 1966، في خطاب افتتاحي، بمناسبة الاحتفال بعيد النّصر، دشّن فيه التلفزيون الوطني، خطاب استهلّه بالقول: “انطلاقا من اليوم، يجنّبنا التلفزيون عناء حضور الاجتماعات العامّة تحت الشمس الحارقة أو تحت المطر… اجتماعاتنا ستجري، من الآن فصاعدا، عندكم، داخل بيوتكم وفي صالوناتكم… لذا فكلّ ما يلزم هو أن تحصل كل عائلة على جهاز استقبال، ومنه يبرز حرصنا على التخفيض في أسعار اجهزة الاستقبال التلفزيوني…”.
كان الرئيس بورقيبة، في ذلك اليوم، يضع حجر الزاوية للمجال العمومي الميدياتيكي في تونس، ويؤسّس بنيويّا وثقافيّا للضوابط التي ستحكم عمله كفضاء عمومي ممأسس بإرادة سياسيّة. وبالفعل، ظلّ المجال العمومي الميدياتيكي يعمل ببصيرة السّلطة السياسيّة، وظلّت “اجتماعات” الرّئيس بشعبه داخل البيوت وفي الصالونات والمقاهي، يؤمّنها التلفزيون والإذاعة، اللذان ينقلان نشاطه الرّئاسي وحتى احتفالات عيد ميلاده حيث تتخذ البرمجة الإذاعيّة والتلفزيونيّة منحى خصوصيّا يمنح الاحتفال أولويّة مطلقة في شبكة البرامج، أولويّة تُجنّد لها الكفاءات الفنيّة والتقنيّة، ويُرصد لها المال، والوقت الوفير. وبدأت، منذ ذلك اليوم، تتشكّل “فلسفة” في الإنتاج الإعلامي تدور كلّها حول العناية الفائقة بالزعيم قابلها اهتمام بالغ بتكوين الفنيين والتقنيين في مجال الإعلام السّمعي المرئي وتأطير الصّحفيين تأطيرا منسجما مع المزاج السّياسي السّائد.
ومن المهمّ التذكير، في هذا المضمار، بسلسلة المحاضرات التي كان يقدّمها بورقيبة في معهد الصّحافة وعلوم الإخبار، مخاطبا طلاّب العلم، وكذلك الشعب التونسي بأكمله، تقديرا منه أنّ المعهد، بصفته وخصائصه الأكاديميّة، هوّ أيضا جزء لا يتجزّأ من المجال العمومي الميدياتيكي الذي يرسم حدوده الفكريّة والسّياسيّة. ومحصّلة هذا التوجّه، هوّ أنّ الاعتناء بأدوات الصناعة الإعلاميّة كان أهمّ بكثير، في فكر المؤسّسات الأكاديميّة والإعلاميّة، ومؤسّسة الدولة بالخصوص، من الصناعة في حدّ ذاتها. ويتجلّى ذلك بوضوح في برامج التدريب الإعلامي، وفي الخطط التعليميّة للبكالوريوس في الإعلام. وهنا نفهم قول بورقيبة: “…ومنه يبرز حرصنا على التخفيض في أسعار أجهزة الاستقبال التلفزيوني…” فحرص الزّعيم لم يكن موجّها لدعم بناء مجال عمومي ميدياتيكي تتوفّر فيه شروط حريّة التعبير والاختلاف في الرّأي، وممارسة العمل الديموقراطي، إنّما تأكّد بقوّة في دمقرطة امتلاك الوسيلة بصرف النظر عن المضمون الذي تنتجه، ذلك لأنّه يدرك مسبقا أنّ أمر الصّناعة الإعلاميّة يتقرّر عنده في قرطاج. وهنا نفهم أيضا كيف أنّ الإعلام في تونس لم ينتج فهما للمشكلات الاجتماعيّة ولا فكرا لمعالجتها.
لم ينشأ، في تونس، فكر مبني يراهن على استثمار المجال العمومي الميدياتيكي كمجال لفهم المشكلات الاجتماعيّة، والبحث عن حلول لها، بل لم يكن هناك وعي عميق بأهميّة المجال العمومي الميدياتيكي كمحرّك للتطور الاجتماعي والاقتصادي وكفضاء منتج للديمقراطيّة. لذلك لم يشتغل المجال العمومي الميدياتيكي في الدول العربيّة، بشكل عامّ، كسلطة رابعة، لأنّ “السّلطة الرّابعة، هي النتيجة الطبيعيّة للفصل بين السّلطات الثلاثة، (فهي) مغروسة في العقل الاجتماعي الذي يعيش التنوّع ويجيز الاختلاف”. وهذا شرط غائب عن مشهد النظام السّياسي في البلدان العربيّة.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock