أبو يعرب المرزوقي
قد يفهم المتعجلون أني في كلامي على شروط السيادة التي من دونها لا يمكن للعرب أن يشرعوا في الاستئناف الفعلي أميل إلى انتظار حصولها للشروع فيه. لو كان ذلك قصدي لكان دليلا على أن أعكس العلاقة بين الشرط والمشروط مع ظن الشرط واحدا وبسيطا. ولا أعتقد أحدا يصدق أني بهذه السذاجة والغفلة. إنما القصد أن كل عمل يعد لتحقيق الشرط يقتضي أن يجري والشرط في الذهن شرطا للعمل من أجله في خطة العمل الموزع في خطة ذات استراتيجية على علم.
لكن ما يلحظه أي متابع أمين لما حصل بين العرب منذ بداية الجامعة هو العكس تماما. فكل ما يعمله أنظمة العرب غايته منع التكامل وليس السعي نحوه. ففي المغرب العربي صارت الصحراء الغربية علة ما قد ينتهي إلى ما لا يحمد عقباه بإطلاق بدلا من أن تكون اساسا للتكامل بحل يرضي الخصمين الكبيرين. ومثله قضى على العراق وقد يقضي على السعودية أما مصر فهي قد صارت مستعمرة علنية لناتن ياهو بتوسط عميلهم الصريح وممولي إبقاءه رغم أنف شعبه.
لذلك فما يخرجني عن طوري هو كلام الحكام العرب على السيادة واستقلال الإرادة. إنها دعوى تدل على عدمها لأنها تحول دون حقيقتها الفعلية لأصحابها. أوروبا التي تفهم معنى السيادة ماهي ورغم حجم دولهم التي لا تقاس بها اي محمية عربية حتى لو فرضناها جمعت ثروتها وقوتها فهمت ما تقتضيه في العصر. لكن الأنظمة العربية التي تغار على “السيادة” الوطنية عندما يتعلق بالتكامل بمبدأ الإجماع تمول احتلالها من حماة للكراسي التابعة وغزاة للأوطان. فإذا عبرت عن مجرد الاشمئزاز من هذا الفكر العقيم اعتبروك عدوا لكأنك تشكك في نوايا الاخلاص لديهم. كلامي على شروط موضوعية وليس بنوايا ذاتية.
فحتى لو فرضناهم في أسمى درجات الإخلاص للأمة والوطن فإن الأمر لا يتعلق بهم بل بالمعيقات الموضوعية لتحقق شروط السيادة من دون قوة موضوعية. والقوة الموضوعية الشارطة للسيادة ليست تحكمية بل هي مناسبة للعصر: ففي عصر العماليق لا يمكن للأقزام أن تقوم لهم قائمة فيبقوا محميات ذليلة. والشيء الثابت أنه لا توجد دولة عربية واحدة ذات سيادة تضاهي سيادة أي ولاية ألمانية أو امريكية رغم أنها ليست دولا في دولة عظمى تحمي الجميع.
لذلك تساءلت ولا زلت عما يحميه الحكام العرب مما يسمونه سيادة إذا كانت حمايتها بقواعد أجنبية ورعايتها باستيراد كل شيء حتى الغذاء والدواء؟
هل السيادة هي “حق الحاكم في أن يظلم وحده” كما كانت تعرف الجاهلية منزلة الكبار في فوضى قبائل أخرجت نفسها من التاريخ بدواحسها وغبراواتها؟
وكل عربي يسلك سبيلا وسطى لا تصل إلى ما نحلم به لكنها تسعى على الأقل بسياسة رمزية وثقافية واعلامية تساعد الاستئناف تعلن البقية الحرب عليها. بهذا يحاربون قطر التي تحاول التحرر ليحولوا دونها ومساعدة ثورة شباب الأمة وثمالة المقاومة ثم ألحقوا بها تركيا التي تحاول التحرر من التبعية. لا يكفيهم أنهم تابعون فيحاولون منع كل سعي للتحرر من التبعية بأن يمولوا حملات الأعداء عليه وقتاله في البر والبحر والجو كما في ليبيا وسوريا. لم يبق غير أن تقتدي الثورة بالثورة المضادة فتوحد صفها والعمل معا لأن ترك الثورة المضادة تستفرد بها واحدا بعد واحد سيقضي عليها عاجلا أو آجلا.
لست غافلا عن كون وحدة الثورة المضادة أيسر لأنها تدافع عن الموجود الذي يتحد من حوله الكثير ويسنده كل عدو والثورة تطلب منشودا يعارضه الجميع. فقوة المنشود لأنها بالأساس روحية وخلقية لا تنتصر عليها قوة الموجود التي هي بالأساس مادية ولا خلقية. العبودية والظلم تهزمهما الحرية والعدل. لذلك فأنا واثق من أن الثورة المضادة لن تربح معركة المطاولة وستنهزم وقريبا إن شاء الله وستكون البداية من مصر كما بدأت نكسة الثورة منها. لكن الثورة المصرية التي آتية حتما لن تكون كالأولى انفجارة شبه عفوية لاقت هوى في امريكا لظنها أنها تابعة لفريدم هاوس والتواصل الاجتماعي، بل هي ستكون الموجة الثانية مما اكتشفته امريكا وعملاؤها لما اختار الشعب من يعبر عن إرادته حتى وإن كان هذا المعبر قد عبر عن عجز وفقر تصور. ولم يكن الأمر قلة خبرة فحسب -وهو عام في تونس ومصر بقية بلاد الربيع- بل عن تقابل بين بعدي الثورة: الاصيل فيها والحديث لم يكونا متناغمين.
وحتى أقولها بما اقصى ما يمكن من الوضوح: المنشود قيم الحداثة وفكر قيادات طالبيه ما يزال بالأفعال لا بالأقوال قروسطيا محرفا لقيم الإسلام. فالتحديث لا يتجاوز الشعارات والإسلام العبادات والفكر ليس حديثا ولا إسلاميا بل هو تلفيق بين للعين الفاحصة. بدليل أن الأحزاب طوائف قروسطية. غيب نهم السلطة تصور السياسة بوصفها مجالا للاجتهاد الجمعي كمناخ يصالح بين الإسلام والحداثة بقيمهما المشتركة ولا بوصفها تربية وحكما ومعارضة. وأكاد أجزم أن ما عشته في تجربة تونس عاشه كل من اراد أن يسهم بإيمان في التجربة: أفرغت مؤسسات الحكم من كل سلطة فعلية وأصبح الحكم مجهول الحيز.
وحتى لا أشخص واحتراما لأمانة المجالس سأكتفي بهذا التلميح لأمر إلى بيت القصيد: الثورة القادمة ستكون متحررة من أصل عيوب التجربة الأولى. وهذا العيب مشترك بين الحكام والنخب الذين وقعت عليهم الثورة والقيادات والنخب التي اختارها الشعب لقيادتها فتبين أنها في العمق من نفس الطينة. والفرق الوحيد هو أن من كان يحكم ونخبه كان يدعي شرعية التحديث ومن كان يعارض ونخبه كان يدعي التأصيل: الجميع مستبد بعقلية قروسطية وبسلوك ابوي. فهما يشتركان في كون الأقوال كلاما إيديولوجيا لا يطابق الأفعال في شيء: الحداثي يواصل سياسة الاستعمار والأصولي يواصل سياسة ما جعله يكون ممكنا. فمن يختاره الشعب لقيادة ثورة لا يمكن أن يكون حركة فعلها أداته الوحيدة تنظيم سري وعبادات وثرثرة شيوخ ودعاة. السياسة تشمل كل شروط الحياة.
وفي ذلك يلتقي الإسلام والحداثة: فالدولة فيهما جمعت بين الرعاية والحماية اللتين هما وظيفتاها منذ أن نزلت قريش: أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. ووظيفة الرعاية من مهام الدولة غاية مشروطة بأدوات تحقق التنمية المادية والعلمية متضمنة في وظيفة الرعاية: الانتاج المادي والإنتاج الرمزي. وهذا كله غير معتبر في الحركات الإسلامية إذا ما استثنينا توظيف مساعدة الفقراء التي لا تختلف كثيرا عن رشوة الناخبين في أحزاب الحكم المستبد. وما كنت لأبادر إلى ما يبدو نقدا جارحا قد يعتبره البعض ظالما لولا أني انتظرت كثيرا نقدا ذاتيا من الحركات الإسلامية فلم يصدر منها شيء معتبر. ما يعنيني ليس الأخطاء الناتجة عن عدم الخبرة مثل اختيار الوزراء أو اختيار وزير الدفاع أو القرار المناسب بل هو أعمق: نظرية الدولة والسياسة.
وهذا العمق مشترك بين الحكام والمعارضين ممن كانوا في الساحة قبل الربيع: كلهم انقلابيون ومستبدون والفرق هو أين وكيف لمن سنحت له الفرصة. بعبارة أوجز: يشتركون في نفس الذهنية التي لا تعتبر الدولة كائنا معنويا تتجسد فيه إرادة أمة متجاوزة للجماعة الحاكمة باسم التحديث أو التأصيل. الدولة ليست ضيعة الحكام. وتحويلها إلى ضيعة الحكام لا يغطيه لا إيديولوجيا الحداثة ولا إيديولوجيا الأصالة فهو بيّن بمجرد فقدان قرار الشرعية. ولما كنا إسلاميين سنة وحداثيين ندعي الديمقراطية فالقرار ينبغي أن يكون شفافا ومعلوم المصدر أي أن ينبع عن المؤسسات التي عينها الدستور لها وحدها.
مدة أربعة عشر شهرا في الحكومة لم أر أي قرار اتخذته المؤسسة المعنية بل هي مجهولة المصدر فضلا عن تلكؤ الدولة العميقة وتحكم المعارضة الجنيس لتحكم الحكم. النقد الذاتي من الحركات الإسلامية التي وثق فيها الشعب لما انتخبها لتكون حاملة آماله بعد الثورة هذا مجاله. أما عدم الخبرة فيمكن تداركه. أشارك بالكتابة وأحيانا بالنصح لأني أشعر بالقرابة مع “الإسلام السياسي” دون انتساب سياسي وأومن بأن المستقبل له لتحقيق صلح الأصالة والحداثة.
لكن لهذا الصلح شرطان:
1. التخلص من شوائب الانحطاط في رؤية قيم الإسلام تشمل كل مقومات الدولة الحديثة.
2. الديموقراطية أفعال وليست أقوالا.
فمن يدعي العمل بقيم الإسلام لا يحاكي الأنظمة المستبدة والفاسدة: منطق الجهويات والعصبيات والقرابات والنفاق الديني لا يؤسس للثقة ولا يبشر بخير. ولهذه العلة ركزت فيما أدعي أنه من شروط الموجة الثانية من الثورة على تكوين الشباب في فلسفة السياسة بتحديد دقيق لمجالها وعلاقاتها بغيره. فبينت أنها في صلة مباشرة بمجال الرؤى لأنه في المستوى الرمزي مثلها في المستوى الفعلي وبينهما العلم والاقتصاد والفنون. وهذه جميعا شبه غائبة. ثم بينت أن الفعل السياسي من حيث هو معبر عن إرادة أمة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها لا يمكن أن يتحقق إلا متعينا في كيان معنوي هو الدولة. وأن الدولة ليست الحكم بل هي كل الفعاليات السياسية في الحكم وفي معارضاته السياسية والمعرفية والاقتصادية والفنية والرؤيوية: حياة أمة مبدعة. وهي مبدعة لذاتها بإبداع شروط رعايتها وشروط حمايتها شروطهما التي تحرر من الحاجة إلى الغير وهو معنى السيادة المتحررة من الخوف والجوع (قريش).
أما إذا كانت أمة ذات معبر عن إرادة مسلوبة تتوسل في الرعاية والحماية فهي ليست دولة ذات سيادة بل هي محمية ذات قوادة: من يتسول يتغول عليه. كل حركة إسلامية تجعل الحكم بهذه الشروط غاية لا تختلف عن الأنظمة العميلة. فالعملاء يمكن أن يسمحوا لها بالمشاركة الرمزية بشرط دروشة الدين. اكتشفت حركة الإصلاح في القرنين الماضيين أن عائق نهوض الأمة وعلة انحطاطها الأساسي هو دروشة الدين فأعداء الإسلام اليوم يريدون توظيفه من جديد. ولهذه العلة فقد اعتبرت كل من يقايض المشاركة في الحكم بهذا الشرط تابعا وليس معبرا بحق عن سياسة الإسلام التي شرطها الوعي بواجبات المؤمن. وواجبات المؤمن مشروطة بمقومات وجود الإنسان: مستعمر في الأرض بقيم الاستخلاف والأول شرطه كل ما يحقق تعمير الأرض والثاني شرطه أخلاق القرآن. وتعمير الأرض بأخلاق القرآن لا يكون لغير ذوي السيادة. التابع ليس من الإسلام في شيء: والسيادة حددتها الشورى 38 أي الاستجابة للرب وتولي الأمر.
جمعت بين لا معبود إلا الله ونسبة الأمر للجماعة (طبيعة نظام الحكم) وتحميلها مسؤولية إدارته بالشورى (اسلوب الحكم) وحل المشكل الاقتصادي. فيكون نظام الحكم جمهوريا (طبيعته) وديموقراطيا (اسلوبه) وسيطا بين الإيمان بالله وحده أي التحرر من التبعية لغيره وحل المشكل الاقتصادي الاجتماعي. فتلتقي قيم القرآن التي هي سياسة الإسلام أو الإسلام السياسي وقيم الحداثة التي سياسة حقوق الإنسان أو حقوق الإنسان السياسية وما يتبعها. ما عدى ذلك لا هو إسلام ولا هو حداثة بل هو مشاركة ذليلة في حكم محميات هزيلة بجعل الإسلام يعود إلى الدروشة فلا يتجاوز عبادات منافقي الدعاة.