صالح التيزاوي
أيّام زمان كانت النّخب العربيّة قادة فكر بحقّ هالها ما كان عليه الوطن العربي من تخلّف فشدّوا الرّحال إلى الشّمال (اوروبا) ينهلون من العلوم والمعارف في أرقى الجامعات ويطّلعون على ما أحدثته الثّورات السّياسية والإجتماعيّة والمعرفيّة من تغييرات عميقة لامست كل جوانب الحياة.
فخلّد الأديب السّوداني الطيّب صالح بواكير تلك الهجرات في الإنفتاح على الآخر في روايته الشهيرة “موسم الهجرة إلى الشّمال”. فما بال بعض “نخبنا” في تونس يشدّون الرّحال اليوم إلى سفّاح الشاّم وطاغيته الذي بات ينافس هتلر و”ستالين” ومن قبلهما “هولاكو” فيما اقترفوا من مجازر؟ طلائع الهجرة إلى الشّمال عادوا إلى أوطانهم فأسّسوا أولى الجامعات والإتّحادات العمّاليّة والرّوابط الحقوقيّة دفاعا عن الحقوق والحرّيات واسّسوا دور النّشر وأصدروا الصّحف اليوميّة تحريرا وتنويرا للعقول أملا في نهضة تعيد للعرب مجدهم. أمّا الذين طاروا إلى الشّام وانفقوا الأموال الطائلة على ذلك من “أنصاف الحداثيين” فقد أصبح منتهى حلمهم صورة يلتقطونها مع “سفّاح العرب” في قصر يحرصه الغزاة. “وغاية القصور في الثّورة أن تعرض الثّورة في القصور”.
أيّام زمان شدّت النّخب العربيّة الرّحال إلى بلاد الغرب لدراسة الثّورات الإنسانيّة وكان حلمهم تثوير العرب على واقع فاسد أنتجه الإستعمار ورعته أنظمة عميلة. فما بال “نكبنا الحديثة” تسرج إلى “قاتل الأطفال” لتتعلّم منه قمع الثّورات العربيّة.
أيّام زمان كان الطّلبة العرب يشدّون الرّحال إلى بلاد الغرب لأنّها مواطن الحرّيّة والإبداع. ولمّا عادوا إلى أوطانهم انخرطوا مع شعوبهم في كفاح مرير ضدّ الأنظمة العربيّة لتخليص أوطانهم من التّبعيّة ومن الإستبداد السّياسي. أمّا أدعياء الحداثة في أيّامنا فقد يمّموا وجوههم إلى معاقل الإستبداد نكاية بالثّورة التي لم تأت بهم إلى السّلطة. وأغرب مافي “نكبنا” من انصار الحداثة المغشوشة أنهم مع الثورة في تونس ولكنّهم مع الثّورة المضادّة في سوريا وفي مصر وفي اليمن وفي ليبيا حيث الموت يتخطّف النّاس. وهم ضدّ استبداد بن علي ولكنّهم مع بشّار والسّيسي وحفتر والحوثي.
هذه التّناقضات تكشف عن “محنة العقل الحداثي” في تونس. عقل اختزل الحداثة في تجفيف منابع التّديّن وتعطيل نصوص صريحة في كتاب اللّه منها ما يتعلّق بنظام المواريث واستبداله بتشريع بشريّ فيما قال اللّه إنّه من اختصاصه “يوصيكم اللّه في أولادكم”. قوم اختزلوا الحداثة في صورة مخجلة مع قاتل الأطفال.
الحداثة عند هؤلاء لها معنى واحد لا يحيدون عنه مهما كان الثّمن: إنّهم ضدّ الإسلاميين أينما كانوا ومهما جسّدوا من قيم التّحضّر وهم مع خصوم الإسلاميين أينما كانوا ومهما جسّدوا
من قيم التّوحّش.