حِفتر ورهان طرابلس دائماً
معن البياري
تطرح الدول التي تحمل خليفة حفتر، بينما تمد ما يسمّيانه “الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده بالقوة الجوية والأغذية اللازمة، واحداً من نسور الحرب الراهنة على الإرهاب، في بلاده. وإذ تيسّرت له نجاحات ميدانية مشهودة في الشرق الليبي، وصار رقما يستحيل تجاوزه، بعد أن تأتّت له ولاءاتٌ جهويةٌ منظورة، وانعقدت له السيطرة على منطقة الهلال النفطي، وأمسك ببنغازي، فإن ذلك كله (وغيره) صنع له ما سمّاها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، “الشرعية العسكرية” في ليبيا، والتي تتوازى مع “الشرعية السياسية” التي يقرّ بها ماكرون لرئيس حكومة الوفاق، فايز السّراج، اتّساقا مع الاعتراف الدولي القائم بهذا المعطى الناجم عن الاتفاق السياسي الموقّع في الصخيرات المغربية في ديسمبر/ كانون الأول 2015، وهو الاتفاق الذي تتعامل معه دول الإقليم، والغرب عموما، والأمم المتحدة، باعتبار بنودٍ فيه مسكّنا موضعيا، من دون كثير اكتراثٍ باستحقاقاتٍ غير قليلةٍ فيه لم تتوفّر لها إمكانات التطبيق، ناهيك عن الاحترام والاعتبار. وهذا مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، غسّان سلامة، في لقاءاته التي نشط فيها، أخيرا، في غير مدينةٍ ليبية، مع عدة فاعلياتٍ سياسيةٍ وأهلية، لم ينقصه الذكاء، وهو يتجنّب التذكير بالاتفاق العتيد، من دون أن يتجاوز سقوفه، مع هوامش أباحَها لنفسه، براغماتيا، للتعامل مع واقعٍ معقد، يشتمل على كثيرٍ مما يخرج عن بنود “الصخيرات”، وربما يعلم الدبلوماسي اللبناني المثقف أنه لن يصادف غير الفشل إذا ما أخذ هذا الاتفاق على محمل الجد.
ليس (المشير؟) خليفة حفتر معنيّا بهذا كله، ولا بالذي في دماغ غسّان سلامة، ولا حتى بأوهام ماكرون وهو يستضيفُه، مع السّراج، قرب باريس، للتوقيع على عشر نقاط، ينتسب بعضها إلى الخراريف أكثر من السياسة، من قبيل وقف إطلاق النار، وانتخاباتٍ برلمانيةٍ ورئاسيةٍ في مارس/ آذار 2018 (!). ليست هذه مشاغل الأسير السابق في تشاد، وإنما ما قاله بنفسه، وبلا أي لفّ أو دوران، في موسكو الأسبوع الجاري، عن “استئناف القتال” من أجل استكمال سيطرة قواته على “كامل التراب الليبي”. هذا أدعى، بالنسبة له، من التسلّي بالحديث عن نقاط اتفاق باريس تلك، وعن “جهود” المبعوث الأممي الجديد الطموح، وبالثرثرة عما دردش بصدده مع فايز السّراج في أبوظبي وباريس مثلا. وللأخير أن يقول ما يقول، وكيفما شاء، فليس على الكلام أيّ جمرك، مثل الذي قاله لإذاعةٍ فرنسية، بعد ضيافة ماكرون لهما، إن التفكير في حلٍّ عسكريٍّ للمشكلات السياسية نوعٌ من الحماقة. لا وقت للجنرال للإنصات إلى هذا وذاك، بعد احتراق ورقة حكومة عبدالله الثني، واستبدالها به، بفضل “الشرعية العسكرية” التي ما كانت لتصير لولا طيران الإمارات الحربي وإمدادات عبد الفتاح السيسي، فاستكمال التمدّد العسكري، بعد السيطرة شبه التامة على الشرق الليبي، هو الأوجب للرّهان على تحقّقه، وهذه جولة حصار درنة (بين بنغازي وطبرق) وسكّانها، في عملية عقابٍ جماعي معلنة، واحدةٌ من جولاتٍ عسكرية جارية وأخرى متوقعة، ربما صعبة، لكنها الأوْلى بالاهتمام والإسناد، إذ لا خيار لعملية الكرامة، وهي توالي نجاحاتها الميدانية منذ قامت في 2014، سوى الإنجاز والمثابرة والصبر وطول النفس، فلا أحد سمع أن “الحرب على الإرهاب” سهلة.
صحيحٌ أن الحسم لم يتحقّق بعد، وأن دونه صعاباً معروفة، غير أن ذلك لا يعني بالنسبة للمحارب الأول من أجل الحداثة والتمدّن في ليبيا، كما تريدنا الإمارات (مثلا) أن نرى حِفتر، الاطمئنان إلى الاستقبالات المعتبرة في قصور باريس وموسكو وأبوظبي وعمّان وغيرها، فالمنشود أن يُستقبل الجنرال رئيسا لليبيا في هذه العواصم، إذا ما قيّض له، بقواته الظافرة، الوصول إلى طرابلس.. درّة المبتغى والمراد، وإنْ طالت الحرب واستعصت في مطرحٍ هنا وآخر هناك. سيكون هذا النجاح واحدا من أعراس قوى الثورة المضادّة في المنطقة العربية، ومهرجانها الذي تعمل على إنجازه، ويزعجها التأخر الحادث في الوصول إليه، وتقلقها العراقيل غير الهيّنة التي تصادفها قدّامه، ولكنه الرهان ولا رهان آخر غيره، ليس في دماغ خليفة حفتر فحسب، بل في جوانح داعميه أيضا.. وهم كثيرون.