تنسيب المرأة التونسية
نور الدين العلوي
هذه الورقة مهداة إلى امرأة عربية قد تتعثر بها في موقع ما، وقد كتبتها بشفقة كبيرة ورغبة في رؤية النساء العربيات سيدات عظيمات راقيات ماجدات بلا منّ ذكوري ولا أذى ولا كذب مدع، ولا دعاية أيديولوجية تسوق لهوى خلاصة الورقة لمن تتوقف حين القراءة عند العناوين أن المرأة العربية ليست أسوأ حالا من المرأة التونسية، أو بوجه آخر المرأة التونسية لا تمتلك أي تفوق عبقري على المرأة العربية.
وكل ما يروج عن نجاح تجربة تحديث خاصة بتونس قادها الزعيم بورقيبة لا يعدو كونه مفردات دعاية سياسية سمجة لا يقدم عليها أي دليل مقارن، وأول علامات تهافتها هي أنها لا تملك هذه المعطيات المقارنة لتقدمها للمرأة العربية لتقودها إلى مشروع التحديث العبقري التونسي ذاته، الذي يبحث له عن أصول تاريخية بتمجيد لصة قرطاج الأولى سارقة الأرض من أصحابها بالحيلة و”التشوطين”.
وليس أبلغ من زيفها أن المرأة التونسية مكنت اللصة الثانية زوجة اللص الكبير من رقبة نساء العرب، بوضعها بقوة الكيد الحريمي على رأس منظمة المرأة العربية، قبل أن تكتشف هذه المرأة أن الزعيمة ليست إلا سارقة لأموال شعب مجّ الأمجاد الكاذبة حتى نفر من وسائلها.
كتبتها في ذكرى إصدار مجلة الأحوال الشخصية التونسية الموافق للثالث عشر من شهر آب/ أوت
الأرقام خطر كاشف.
سأجري مقارنة بين معطيات كثيرة ولكن بلا أرقام كمية وإنما بإشارات نوعية فالأرقام غير متاحة وأعني أرقاما تكشف وضع المرأة التونسية مقارنة بنظيرتها العربية في مجالات مختلفة منها التعليم والتوظيف والتمكن الإداري والإنتاج الفكري والفني.
توجد أرقام لكن روجتها جهات تصر قبل ذلك على مؤشرات التفوق لصالح المرأة التونسية ما يجعل المقارنة مضروبة في العمق قبل نشرها ويحيل الأرقام إلى وسيلة دعائية مصطنعة مثل كل أرقام دولة بن علي المغرمة بالتصنيف الكمي على أساس أرقام مصنوعة في مخابر الدعاية واعتمدتها فقط حميدة نعنع ومثيلاتها بمقابل مالي سخيف.
ويمكن العثور على أرقام مماثلة في بلدان عربية أخرى تجعل نساء ذلك البلد متفوقات فالمرأة حقل دعاية سياسية رجالية بامتياز وذلك يجعل كل الأرقام مزيفة ويستحسن عدم اعتمادها علميا والذهاب إلى الملاحظة النوعية في انتظار إنقاذ مخابر البحث الكمي من يد السلط السياسية للوصول إلى مرحلة تنسيب علمي يبني الحقائق على وقائع ومعطيات لا على كذب صحافية مستأنسة أو صحافي يتمسح بأعقاب جمعيات نسائية ممولة بفلوس مشبوهة مقابل عشاء في نزل فخم.
مجالات التفوق هي عادة نسب التعلم ونسب التمكين للمرأة في المناصب الإدارية والسياسية ونسب تملك الخيرات مقارنة بالرجل ونسب التمتع بحرية المشاركة في صناعة الرأي العام وهنا لا يمكن الحديث إلا بالأرقام المقارنة والتحدي الحقيقي لكل من يمارس دعاية تفوق النموذج التونسي أن يقدم فعلا أرقاما من مصادر متقاطعة ليمكن له القول بالتفوق لكن حتى الآن لا يعدو حديث هؤلاء أن يكون من قبيل تفوق فرق الكرة التونسية على نظيرتها العربية وهي التي نالت كأس أفريقيا اليتيم بلاعب مستورد.
التعليم والتوظيف متشابه ومتطابق النتائج بين البلدان العربية
كل البلدان العربية أنشأت لها أنظمة تعليمية للجنسين وتخرج من جامعتها ألوف من النساء والرجال ومر من الألوف ألوف نحو الوظيف العمومي والخاص في مجالات مختلفة ولا توجد دولة عربية بما في ذلك دول الخليج العربي المتهمة ضمنا باحتقار المرأة إلا وفيها نساء متعلمات تعليما عاليا ويمسكن وظائف متقدمة في دولهن.
تختفي نسب المقارنة السليمة ولكن لا نجد في تونس سببا للقول أن المرأة التونسية تعلمت أكثر وأنها تمكنت أكثر من دخول مجالات العمل التنفيذي. وتزيد الرغبة في تنسيب النتائج عبر الإشارة إلى أن التونسية لم تبرز تفوقا أدبيا وفنيا وعلميا كما هو الأمر في بلدان تعرف تعليما متفوقا. فالساحات الأدبية والعلمية العربية رجالية في أغلبها ولا مكاسب خاصة للتونسية فيها. هل تنتج المرأة التونسية المتعلمة في مواقع العمل أكثر من نظيرتها العربية؟ هل تجدد في أساليب العمل والإنتاج؟ كاتب المقال ليس كسولا عن البحث ولكن النتائج الخارقة لم تقتحم عليه عزلته.
تقدم الآن في تونس أرقام عن تأنث التعليم والإدارة نتيجة تفوق نسب البنات في المدرسة وفي كل المراحل ولكن هذا التفوق جاء في أغلبه بعد انكسار الربط المؤسس الذي قامت عليه المدرسة التونسية (والحال نفسه عربيا) بين التعليم والتمهين فلم تعد المدرسة تؤدي مباشرة إلى الحصول على مهنة ولذلك فإن الرجال أول المغادرين إلى حلول أخرى (كالهجرة السرية) لذلك ظهر هذا التفوق كأنه حلول محل الرجل وليس منافسة كفؤة له. لقد ترك المجال شاغرا فملأته اللاحقات سيرا على الوهم القديم منكسر التعليم ذاته الذي يؤدي إلى مهنة.
وسنجد نسب العاطلات الحاملات لشهادات علمية يفوق عدد الخريجين بينما سيفوق عدد العاطلين من غير حملة الشهادات في صفوف الذكور. وخارج سوق العمل المهيكل والقائم على الكفاءة التعليمية لنلق نظرة على العمل في الزارعة فالأمر يستحق النظر.
المرأة الريفية فضيحة حالة التفوق التونسي
في دائرة شعاعها 100 كلم حول العاصمة التونسية يمكن لأي باحث ميداني أن يحسب نصف مليون امرأة تستغل في الزراعة في كل المواسم بشكل مهين. من حيث التأجير والضمانات المهنية والاحترام.
المرأة العاملة في الزراعة تحصل على نصف الأجر الذي يحصل عليه الرجال وفي أحيان كثيرة أقل من النصف. فمقابل 20 دينارا (اقل من 10 دولارات) يعمل الرجل أقل من ثمان ساعات في اليوم ويحصل مع الأجر على فطور صباحي وشاي وتبغ في الغالب وعلى وجبة غداء دسمة. بينما تشتغل المرأة في نفس الحقل 8 ساعات كاملة وقد تزيد ولا تحصل على أية إضافات عينية.
وانتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة مقاولي الأنفار (كما يسميهم المصريون) الذين يجمعون النساء ويوزعوهن على الحقول وليس لهم من رأس مال إلا وسيلة النقل (سيارة بيك آب بلا غطاء) حيث يجلس مقاول النساء في المقهى ويأتيه الفلاحون بحثا عن العاملات فيوفرهن بمقابل اقتطاع بين 5 و 8 دنانير نظير أجرة تجميع وتنقيل قبل العمل وبعده.
أما إذا ابتعد الباحث عن العاصمة وولج إلى الحقول الداخلية (جندوبة الكاف سيدي بوزيد القيروان صفاقس) فإن أجر المرأة يصل إلى أقل من 10 دنانير مقابل 8 ساعات من العمل. بينما يعرض الرجل عن العمل أو يعمل بأجر أرفع إلى حدود الضعف.
وهؤلاء النسوة العاملات في قطاع الزراعة (وقد بدأن يظهرن أيضا في أعمال البناء والتشييد) لا يتمتعن بأية تغطية صحية مضمونة اجتماعيا ولا يحصلن على تقاعد بعد نهاية سن العمل وكثير منهن الآن يعملن بعد سن الستين في غياب رواتب تقاعدية (كان وجب أن يكن حصلن عليها نظير عملهن زمن دولة بورقيبة وبن علي).
هل هذه علامة من علامات تفوق المرأة التونسية؟ الوضع مشابه في حقول العمل الزراعي في مصر والمغرب وربما سوريا قبل الحرب الأهلية بما يجعل التشابه تطابقا وتغيب كل عناصر الفخر غير المبررة خاصة وأن مروجي الفخر ومروجاته لا يتناولن بالدرس والبحث حق عمل المرأة خارج الوظيف المرفه وتنشغل النقابة الأثقل وزنا بمنظوريها من الموظفين فقط فليس لهؤلاء النسوة إمكانية قانونية للانخراط في نقابات للدفاع عن حقوقهن الدنيا في العمل الأقرب إلى السخرة.
منع التعدد هل أنتج تميزا ؟
تونس هي البلد العربي المسلم الوحيد الذي نص على منع تعدد الزوجات وجرمه ولكن هل قدم ذلك امتيازا ما للمرأة التونسية؟ لقد قامت مفردات الدعاية المبررة للنص على أن التعدد اضطهاد ممنهج وأنه كان يمارس على نطاق واسع وهذا ليس صحيحا عقود الزواج في العاصمة (وهي المكان الوحيد تقريبا الذي كان به سجلات مستوفاة زمن الاستعمار) اثبت أن النسبة لم تتعد 2 بالمية من العقود. أما زيجات الأرياف فقد كانت لسبب متعلق بارتفاع نسب وفيات الأطفال في وضع صحي متخلف.
والآن نكتشف رغم غياب الأرقام الدقيقة في دراسات مقارنة أن نسب التعدد في بلدان عربية تبيحه ضعيفة جدا وربما منعدمة وذلك ناتج عن سبب يشمل تونس كما يشمل بقية الأقطار. لقد تغيرت حالة الأسرة التونسية والعربية نتيجة دخول المجتمع في اقتصاد السوق الذي لا يسمح لصغار الأجراء والموظفين والعملة بمدخول يفي بزوجتين أو أكثر.
لم ينتج نص منع التعدد أي تغيير حقيقي ولم يوفر أي امتياز اجتماعي والتغيير جاء من خارج النص كما هو الأمر في كل سير المجتمعات الخاضعة لنمط استهلاك سوقي لذلك فالحال متساوية والنتيجة واحدة بين بلدان تبيح التعدد وبلد يجرمه. لقد اثبت النص فقط معطي مهما أنه لا يمكن فرض التغيير بنص وهو منهج بورقيبة الذي فشل. أما أغنياء القوم في تونس وفي غيرها فلهم ما يكفي من المال لتدبير بيتين أو أكثر غير أن الرجل التونسي يتخذ خليلة لا زوجة ثانية وقد انتشرت في السنوات الأخيرة حيلة الزواج العرفي (الشرعي غير القانوني)
لنتوقف عن الكذب.
حال العرب واحدة أو متقاربة في التعليم وفي التمهين وفي الحريات وفي الأحوال الشخصية ولا أساس علمي للقول بأن تونس متفوقة بتشريعاتها على بقية الأقطار العربية. كل الجعجعة السائدة هي محض هراء أيديولوجي لتجربة لا تملك فعلا عناصر التفوق خاصة أن الأمر فيها مرهون بصراع أيديولوجي بين تيار الحداثة الذي يزعم تملك قضية المرأة ويجر الإسلاميين إليها لأنهم توقفوا عند سلامة التشريعات الإسلامية الأولى ولم يغادروها بما جعلهم يرتبكون دوما عند طرح هذا الموضوع فيقعون في المطب الأيديولوجي ويظهرون كأعداء للتقدم.
يحتاج الأمر في تونس وفي غيرها إلى إخراج مسألة تحرير المرأة وتنويلها حقوقها المشروعة إلى الخروج من دائرة الكذب إلى فعل صادق يوسع زاوية النظر إلى قضية الأسرة في مجتمع متحول ومفتوح على تيارات الفكر العالمي وعلى سوق معولمة وإلى تثاقف حاد وموجه من الخارج. وأول الخطوات أن يوجه سؤال دقيق إلى علماني العرب وحداثييه وعليهم الإجابة هل على المجتمع العربي الذي قام على وحدة الأسرة أن يتقدم في اتجاه نموذج التحديث الغربي الذي ألغى الأسرة وعوضها بحرية الأفراد أم عليه أن يجد صيغا للتوفيق بين الأسرة وبين التحرر الاجتماعي (السلوكي والعاطفي/الجنسي) وثانيها سؤال بنفس الدقة للإسلاميين والمحافظين عامة هل أن تشريعات القرن الأول للهجرة بخصوص الزواج والقوامة والميراث لا تزال قابلة للتطبيق بحذافيها في القرن 21؟
نحن في مجتمع يتحول ويضرب على غير هدى، وعلى نخب هذه المجتمعات المضطربة أن تستبق بحلول حقيقية، لا بأكاذيب أيديولوجية تغنم من ورائها مكاسب سياسية آنية، وإذا كانت قارئة مجهولة وصلت إلى هنا، فليكن يقينها أننا في الهم عرب، وأن تونس ليست أكثر من حالة مشابهة أو مطابقة للحال في بلدها. وأن عمل تحرير المجتمع بدأ بعد، ولكن الوجهة لا تزال غائمة. تلك الوجهة هي بغية رجال العرب ونسائهم، وعلى قدم المساواة.
عربي21