لماذا فشل بورقيبة في بناء حداثة حقيقيّة ؟

صالح التيزاوي
يقول عنه أنصاره وأتباعه إنه باني الدولة الوطنية الحديثة ومحرر المراة وإليه يعود الفضل في تعميم التعليم ونشره في البلاد التونسيّة، ودوره لا ينكر في بناء قطاع صحّي عمومي يوفّر خدمات جيّدة لكلّ التّونسيين. أما خصومه وهم كثر فينعتونه بالمستبد. ويحمّلونه المسؤوليّة عمّا لحق تونس من هزّات اجتماعيّة في عهده. كما يحمّلونه المسؤوليّة عن إطالة عمر الإستبداد وأنّه فوّت على تونس فرصة الإلتحاق مبكّرا بالعالم الدّيمقراطي، وضيّع أعواما من عمر الدّولة في السّيطرة على المجتمع والإحتفاظ بالحكم وإشاعة الإقصاء والخوف في كلّ مكان، ولو أنّ تلك الأعوام أنفقت في تدريب المجتمع على الممارسة الدّيمقراطيّة لكان ذلك أفضل للجميع.
ذات يوم في زيارة رسمية أداها إلى تونس، رئيس السينغال “ليوبولد سيدار سنغور”، قال لبورقيبة: نحن الجيل الذي حقق الإستقلال، آن الأوان لنتنحى ونفسح المجال لقيادة جديدة وشابة. فلما انصرف الرئيس الشاعر، جاء ردّ المتزلّفين لبورقيبة سريعا بإعلانه رئيسا مدى الحياة. انسحب الرئيس السينغالي من الحكم لخلفه “عبدو ضيوف وتمسّك بورقيبة بالحكم حتى أطاح به بن علي”، المخلوع لاحقا، بموجب ثورة ديسمبريّة عارمة. هذا هو جوهر الخلاف مع بورقيبة، عقلية مستبدة، مغلفة بقشور الحداثة والمدنية. لا يرى نفسه إلا زعيما يأمر فيطاع. تونس بما فيها ومن فيها ملك له. أليس هو محررها من الإستعمار ؟ وعلى رأي أنصاره، فهو من “نحى” القمل للتوانسة”. وهذه الخصلة وحدها “كفيلة بتأبيده في الحكم.
يقول أنصاره إنه بنى المدارس في الأرياف، وفي الجبال، وكان التعليم على عهده مجانيا، كما بنى المستشفيات في كل الجهات. أليس هذا من أوكد واجبات الدولة نحو شعبها ؟ فلماذا يعتبرونه منّة وتفضّلا من الزعيم ؟ فالتعليم والصحة أنفقت عليهما الدولة الوطنية من قروض سدّدها الشّعب التونسي، ولم تسدد من مال خاص للزعيم أو لحزبه. وهل تونس وحدها تفردت بهذه المشاريع دون سائر أمم الأرض؟ كل الدول أسست المدارس والجامعات وبلغت أعلى مراتب العلم والمعرفة والتقدم والحداثة، ورغم ذلك، لا يحكمها رؤساء مدى حياتهم. بل تعتبر ما تقوم به من جوهر مهامها لا تنتظر عليه شكرا. بل يحاسب المسؤولون عند التقصير في هذه الخدمات. فلماذا في بلاد العرب يتعامل الحاكم مع حقوق شعبه على أنها هبة، يغمر بها من يشاء ويحجبها عمّن يشاء؟ هكذا حال المستبدّين في التاريخ، يعتبرون أنفسهم استثناءا قلّ أن يجود الزمان بمثلهم. وربّما يرون أنفسهم أكبر من شعوبهم وأكبر من الدّولة، ليس لهم شبيه في التّاريخ. صحيح أن بورقيبة فتح المدارس للتونسيين ولكنه اعتقلهم عندما خالفوه الرأي. وعاقبهم بالحرمان من االتّعلّم ومن العمل. فأيّّ جدوى للتّعليم و”للمادّة الشّخمة” إن كانت لا تبني لصاحبها رأيا مستقلّا ؟ وكيف تنهض الشّعوب إن بقيت عقودا تعيش في جلباب زعيمها مكرهة على ذلك. لأنه يعتبر رأيه صوابا لا يحتمل الخطأ ورأي شعبه بسياسييه ومثقّفيه خطأ لا يحتمل صوابا.
روي عن الحاكم العادل عمر بن الخطّاب أنّه زمن حكمه، بينما كان مارّا ذات يوم في الطّريق العامّ فرّ الصّبية من امامه تهيّبا منه، إلا أنّ احدهم بقي واقفا في مكانه. تقدّم عمر بن الخطّاب منه وسأله: لماذا لم تهرب مثل أقرانك؟ فأجابه الصّبيّ: ما أذنبت حتى أخشاك، ثمّ إنّ الطّريق فسيحة ويمكنك المرور. علّق أحدهم على قول عمر بن الخطّاب: “إنّه يريد أن يحكم مملكة من الأسود ولا يريد أن يحكم مملكة من النّعاج” فلماذا يصرّ حكّام العرب على القاء شباب الأمّة في غيابات السجون وكسر إرادتهم وسفك دمائهم لتقوية سلطانهم، حتى غدا الإستبداد “استثناءا عربيّا”.
كما يروّج أتباع الزّعيم بورقيبة أنّه “حرر المرأة”. ولكنهم لا يذكرون أنّه منعها حقها في أن تكون صاحبة رأي. بل حرمها حتى من حقّها في اختيار لباسها الذي هو مسألة شخصيّة. بورقيبة لبث سنين في فرنسا، ربما درس “العقد الإجتماعي” لـ “جان جاك روسو” لكنه لم يعمل به عندما عاد إلى تونس. بل اختزل الدولة في شخصه، وتعامل مع مواطنيه بمنطق الحاكم بأمره: “شعب الدولة لا دولة الشعب”. ولا شكّ أنّه درس أيضا فلسفة الأنوار التي بشرت بقيم الحرية والمساواة ولكنّه عندما عاد إلى تونس أنكر على التونسيين ممارسة حقوقهم. فراح يعتقل من يمارس حقّه في حرّيّة التّعبير لأنّه كغيره من حكّام العرب لا يقبل رأيا مخالفا: “لا أريكم إلا ما أرى”.. أقيمت في عهده المحاكمات السياسية لخصومه من اليوسفيين والزّواتنة والشيوعيين والنّقابيين والإسلاميين من أجل إقصائهم عن المشهد السياسي وحتى يبقى الحاكم والزعيم الأوحد في البلاد. (وقد تمّ له ذلك).
لقد جمع كل السلطات في يديه لانه يعتبر نفسه صاحب الفضل على تونس وعلى شعبها وأن تونس من غير زعامته الفذة لا تساوي شيئا هكذا تحول بورقيبة إلى دكتاتور. لقد أخذ عن الإستعمار إستعلاءه وقسوته وعن البايات والملوك سلطاتهم المطلقة. عقدة الزعامة ملكت عليه كيانه وسوّلت له انتهاك حقوق شعبه وحرمانه من المشاركة الفعلية في الحياة السياسية على قاعدة التّنوّع والإختلاف من أجل حداثة حقيقية. ولم يستمع للأصوات النّقديّة من داخل حزبه بإدخال جرعة من الإصلاحات الدّيمقراطيّة على نظام حكمه. وإذا تجاوزنا كل ذلك النّقد والتمسنا له آلاف الأعذار: كالعقلية الأبويّة التي تبيح للأب ان يمارس دوره في بعض الأحيان بشئ من القسوة للحفاظ على العائلة. فلا عذر لبورقيبة في:
1. تصفية الزعيم الفذ صالح بن يوسف، ويكشف هذا الإغتيال عن حجم الإستبداد الذي بلغه بورقيبة، وكثيرا ما كان ينعت ضحاياه في وسائل إعلام الرئيس بالمارقين والضاّلّين، مع أنّ بعضا من ضحاياه، من كان معجبا بشخصيته، ومقدرا لأدواره في تاريخ تونس الحديث، وردّد مع عموم التّونسيين (عن وعي أو عن تقليد): “يحيا بورقيبة”.
2. تقديمه لـ “بن علي” إلى الصّفوف الأماميّة في الدولة ليتدرج بسرعة في المسؤوليات حتى انتهى به الأمر إلى الإنقلاب عليه. لقد جمع المخلوع سيّئات بورقيبة وزاد عليه قذارة اليد.

Exit mobile version