آل البيت في عرسال

سمير ساسي
لم يجد حسن نصرالله في خطابه عن معركة جرود عرسال غير أرواح آل البيت تحل في أجساد جنوده المنهكين بوزر الدم السوري، ليرفع بها من معنوياتهم، ولَم يكن لجوء نصر الله لأرواح آل البيت الطاهرين غير إقرار ضمني، لنجاسة المعركة التي يخوضها منذ اندلاع الثورة السورية وولوغ ميليشا حزبه في دم الأبرياء.
لم نسمع من كان سيدا للمقاومة من قبل أسهب في حضور آل البيت في المعارك ضد الصهاينة مثلما أسهب في خطاب معركة عرسال، كانت خطاباته القديمة في نصره القديم تمتح بعضا من سيرة آل البيت أو حصرا من الحسين رضي الله عنه، لكنه الْيَوْمَ جاء بالسيدة زينب والعباس وكل رموز السردية الشيعية التقليدية المقدسة يستنجد بها على حياء بدا واضحا في خطابه وقسمات وجهه ونبرات صوته، فالصورة كانت فاضحة واضحة كاشفة لعمق التمزق في نفس من كان صوته يجلجل مرتجلا خطاب النصر على العدو الصهيوني، وكان الناس يسمعون له متجاوزين عما قد يشوب الخطاب من أخطاء أو غمزات في غير محلها، لأنهم كانوا يشعرون بأن الخطاب يمثلهم وهو خطاب لم يدنس بدم بريء.
إن الاستحضار المكثف للرموز المقدسة في السردية الشيعية في خطاب عرسال، يستهدف ملء الفراغ المضموني الذي بحث عنه نصر الله قبل أن يلقي الخطاب، وقد أقر هو بذلك حين أكد أنه كان مترددا كيف سيكون خطابه، هل يكون كلمتين لعموم الناس أم يخص به “المقاومين”، لم يكن هذا السؤال موجودا في قاموس خطابات نصر الله القديمة، فلم يكن عنده فصل بين عامة الناس وبين “مقاوميه” بل كان يستغل ما يحققه جنوده من نصر على الصهاينة ليخاطب الأمة وليس اللبنانيين فقط ولا جنوده فقط، أما خطاب عرسال، فقد ألغى الناس من القاموس، فسماكة الدم السوري على بنادق مقاوميه كانت تحتاج تكثيفا رهيبا واستدعاء مركزا لكل ما يمكن أن يساعده في إقناعهم أنهم يخوضون معركة شريفة طاهرة كطهارة أرواح آل البيت.
لقد بدا تذبذب الزعيم في لجوئه إلى قراءة نص التعويذة المقدسة التي يقولها الشيعة حين زيارتهم لمراقد الأئمة كما قال، فهل يعقل أن يقرأ زعيم طائفة تعويذته المقدسة من الورق ولا يرتجلها ثم يخطئ حتى في قراءتها مكتوبة؟! التحليل النفسي لتلك اللقطة يؤكد يقين الرجل أنه غير واثق من هذا الاستدعاء المقدس في غير محله، وأنه عبث آخر يحاول به نصرالله أن يملأ جنوده بوهم أنهم ورثة الأئمة من آل البيت وأنهم هم من أنقذوه من الذلة كما قال مستعيرا الوصف من تعويذتهم المقدسة. قد نجد مبررا لهذا الاستدعاء المقدس لأرواح آل البيت في طأطأة رئيس سماحته في أغلب فترات الخطاب، فما كانت تلك عادة “سيد المقاومة” لكنه في خطاب عرسال ما يفتأ أن يطأطئ الرأس، كأن به حياء عذراء بكر سئلت في شأن عريس لها. لكن لم يكن سماحته بكرا فقد مضى الآن ست سنوات على انفجار الدم من بين رشاشات سلاح جنوده تساند براميل بشار تتنزل على الأطفال والشيوخ وتحاصر مخيمات اللاجئين ومدن كثيرة لعزل سوريين بداعي أنهم دواعش.
كان هذا موجبا للطأطأة والذلة والخجل، لكن “سماحته” كان يجحد الحقيقة ظلما وعلوا، وقد استيقنها في نفسه فلم يجد ما يبرر به هذه الطأطأة إلا ادعاء السكينة والخشوع والتذلل في حضرة الأرواح الطاهرة لآل بيت النبي رضوان الله عليهم، لذلك دعاهم وزعم أنهم يسكنون في أرواح جنوده بعد أن أضاعوا البوصلة الحقيقية، بوصلة مقاومة العدو التي تجمع الناس ولا تفرقهم وتذهب ريح الطائفية التي انبجست من كلمات حزب الله وميلشيات إيران وهي تعلن اصطفافها إلى جانب النظام السوري ضد شعبه بداعي أن ما يجري في سورية يستهدف المقاومة. المقاومة التي لم تحضر كثيرا في خطاب عرسال ولم نسمع غير إشارات خافتة شبه خفية لما يجري في بيت المقدس، ولم نر سماحته يطلق وعودا بالمساعدة ووقوف حزبه إلى جانب الفلسطينيين المنتفضين في الأقصى، أشار إليهم بكلمات خفيفة على اللسان غير ثقيلة في الميزان مثلما كان يفعل، فحتى العدو وقد سمعها منه لن يبالي بها ما دام هو نفسه -أي العدو- قد انزاح من معجم العدو الصهيوني إلى معجم العدو الإسرائيلي كما قال سماحته على غير عادته.
هل هي أرواح آل البيت الطاهرة التي فرضت على من كان سيدا للمقاومة أن يتطهر من قواميسه القديمة الساطعة الجامعة الرامزة إلى قواميس خاوية خالية فارغة محايدة، عملا بالقاعدة اللغوية مع بعض التعديل إذا التقى طاهران يحذف ما سبق، لكن آل البيت لا يرضون من أتباعهم الحقيقيين والمفترضين أن ينجسوا ذكراهم ولا مراقدهم ولا تاريخهم ولا أي شيء من ميراثهم. آل البيت وعلى رأسهم الحسين رضي الله عنه يؤمنون بأن الدم ينتصر على السيف وقد كان “سماحته” يردد هذا الشعار في معاركه الطاهرة القديمة قبل أن تتنجس بالدم السوري، لكنه الآن صار “سمحا” مع السيف، وقد صار السيف في يده مسلولا على غيره من الأبرياء الذين لم يحتلوا له أرضا ولا هاجموا له دارا ولا غدروا به، ولم يسلموه ولم يخذلوه في معاركه القديمة، ولم يبن منهم ما يشير إلى خيانة متوقعة في قابل الزمن لو آل الأمر إليهم بعد رحيل بشار.
لكن السيد القديم كان يصادر على المطلوب وكان عجولا وقد أعمى السيف بصيرته فلم ير الدم الطاهر البريء يردد مقولة أبي عبدالله الحسين كما يحلو للسيد أن ينادي الإمام، أن الدم سينتصر على السيف مهما أوغل السيف في الجسد.. لقد خشي سماحته أن تتحقق النبوءة وأن يكون للرؤيا تأويل حقيقي بعد حين وإن طال هذا الحين، فلم يجد غير استدعاء الحسين وزينب والعباس على غير موعدة وبسوء أدب ظاهر مع آل البيت الطاهرين، ليضفي على نجاسة سيفه طهارة مزعومة ويستجدي منهم مشروعية وهمية ترفع أسهمه كما كانت ذات زمن مقاوم.
لكن هيهات.. ولهيهات هذه أيضا قصة في السردية الشيعية وقصة مع “سماحته” خصيصا فقد كان لسانه يجلجل بها ولا يتتعتع مرددا قول الحسين “هيهات منا الذلة”، لكنه رغم ما قال؛ إنه نصر في عرسال لم يكرر “هيهات” القديمة؛ فقد أدرك أنها انزاحت عنه إلى غير رجعة في اتجاه مختلف انزاحت حاملة قميص الجوعى في مضايا أولئك الذين ماتوا جوعا بعد أن حبسهم الحزب ومنع عنهم الطعام ولم يترك لهم حتى خشاش الأرض يأكلون منه، لقد حملت هذا القميص وصوت ذلك الطفل السوري البريء، وهو يستعد لمغادرة العالم المتنجس بسيف ميلشيا السيد، وقد ردد: سأخبر الله بكل شيء. نعم سيخبره وهو السميع العليم بكل شيء، وقد يرفعه الله إلى مقام آل البيت الطاهرين ليحدثهم عن الدم النجس الذي مزج به سماحته أرواحهم ساعتها، لن يكون هنا إلا مقعد واحد قرب آل البيت حتما لن يكون للسيد القديم فيه نصيب.
مدونات الجزيرة

Exit mobile version