زهير إسماعيل
في تاريخ النظام العربي المعاصر عشنا النصر والهزيمة. وحين نتأمّل فيما حدث نكتشف أنّ الانتصار كان حالة عاشها النظام وسُجِّلت باسم الشعب أو الأمّة وعنوان هذه الانتصارات الوحيد هو الانقلاب العسكري الذي سمّي ثورة. كان هذا في مصر وسوريا والعراق وبعض الأقطار الأخرى. وكان الأمر تعبيرا عن دور المؤسسة العسكريّة، بعد مرحلة ما سمّي بالاستقلال وبناء الدولة الوطنيّة.
هذه الانتصارات التي سجّلت باسم الشعب وقواه الحيّة لم يستفد منها غير العسكر (أو من بقي منهم بعد صراعات بينية دامية) والفئات والمصالح التي نمت حول السلطة الجديدة.
والهزائم كانت هزائم هذه القيادات العسكريّة ونظامها السياسي في مواجهة الكيان الصهيوني. وهي أيضا هزائم في مواجهة الفقر والمرض والجهل، هزائم أمام تحديات التنمية والحريّة والكرامة الوطنيّة التي لم تخرج عن “أناشيد وطنيّة” ميّتة غير قابلة لأن يُستمع إليها يرددها إعلام خشبي.
هزائم الأنظمة هذه تمّ تحميلها للأمّة التي لم تشارك لا في “الانتصارات الموهومة” (الانقلابات) ولا في الهزائم المدوية، ولا سيما الهزيمة في مواجهة الكيان الصهيوني المحتل. فشاع الحديث عن الزمن العربي الرديء، وهو في حقيقته زمن النظام الاستبدادي المقرف رداءةً.
هذا النوع من “الانتصارات” تكفّلت الأيّام بكشف حقيقته. حقيقة نظام الاستبداد العربي. ومثّلت ثورة الحريّة والكرامة الحلقة الأخيرة من مسار التعرية هذا. لذلك كان موقف النظام العربي من الثورة واحدا في تونس ومصر واليمن وسوريا، ولا عبرة باختلاف الظاهر فالعمق واحد: هو حقيقة هذا النظام المعادي للإنسان والحريّة.
غير أنّ تعقيدا طرأ في خضمّ مسار الثورة في المجال العربي. وتمثّل في متغيّرين جديدين انضافا إلى متغيّر سباق أشرنا إليه (وظيفيّة نظام الاستبداد العربي) وهما “وظيفيّة المقاومة” و”وظيفيّة الإرهاب”. فصرنا أمام ثلاث قوى وظيفيّة فاعلة في المجال العربي الواقع تحت تأثير ثورة الحريّة والكرامة، وهذا ما عقّد المشهد، وأهم بتكافؤ الأدلة في أكثر من مناظرة، ولا تكافؤ.
1. المقاومة الوظيفية : وقد كنّا انتبهنا إلى هذا في مقالات لنا والمقاومة في لبنان تحرّر الجنوب بالبندقيّة في 2000 وتكسر جيش الاحتلال في 2006 باعتراف الاحتلال نفسه (تقرير فينوغراد). وتأكّد هذا الأمر مع ما سمّي بتعارض المقاومة والثورة في السياق السوري. وتجلّى الامر في تغيير وجهة البندقيّة من بنت جبيل ومارون الرأس إلى ببرود والقصير ثم ليصل إلى حلب وحمص وحماه عواصم الثقافية الإنسانية التي لاتهزم فيضطرّ غزاتها إلى تغيير ديمغرافيتها بتقتيل اَهلها وتشريدهم وتعويضهم بهمج طائفي هو خليط من “الحشد الشعبي” و”فقراء خراسان” و”بقايا العلويين”. وهو ما تفعله الخمينية في سوريا، بعد أن نجحت في تطييف ثلاث أقطار عربيّة: العراق واليمن وسوريا.
بندقيّة المقاومة الوظيفيّة، قد تعود إلى بنت جبيل والجنوب المحتلّ، ولكنّها لن تكون إلاّ امتدادا للاستراتيجيا الإيرانيّة ومصلحة دولتها. وقد يخدم فعل المقاومة الوظيفيّة مصلحة المجال العربي، وقد حصل هذا فيما أشرنا إليه من بطولات هذه المقاومة في الجنوب اللبناني، ولكن كلّ ذلك من باب التقاطع الموضوعي (تقاطع المصالح) وليس من باب اللقاء الاستراتيجي. فحين اختلفت مصالح إيران مع “المقاومة الوطنيّة العراقيّة” في اوّل عهدها ومع الثورة في السياق السوري، دارت المقاومة الوظيفيّة مع الموقف الإيراني، فشككت في المقاومة العراقيّة، وتورطت في تقتيل السوريين وإجهاض ثورتهم، وتقاطعت موضوعيًّا مع دور القوى التكفيري المدفوعة بوهابيّة آل سعود المتصهينة.
2. الإرهاب الوظيفي : والأصل أنّ كل إرهاب وظيفي، غير أنّ المقصود هنا هو أنّ الإرهاب يتحوّل إلى صناعة. وقد شارك في هذه الصناعة ثلاثة أطراف التقت مصلحتها على بعثه وتوظيفه:
أ – أنظمة البترودولار التابعة للاستراتيجيا الأمريكية والمتحالفة مع الكيان الصهيوني وعلى رأسها آل سعود وآل نهيان، فهم من سلّح الثورة السوريّة وطيّفها وأتى بقطعان الإرهاب من كلّ أنحاء العالم والتقى موضوعيا مع إيران على تطييف السياق السوري وترسيخ الخطاب الشريعي التكفيري.
الموالين لإيران ومن أرهقتهم ثنائيّة لمقاومة الوظيفيّة/المقاومة العضويّة وقوّة إجرائيتها، يضطرّون إلى حشر من آمن بالثورة السوريّة مبتدى ومنتهى ضمن القوى التكفيريّة والتخندق مع آل سعود ودوّل البترودولار، ويعرّجون على قطر. ولئن لم يكونوا مجانبين للصواب في تذكيرهم بأنّ قطر لا تخرج عن الاستراتيجيا الأمريكية في المنطقة ولكنّهم لا يجدون الشجاعة للإجابة على سؤال: لماذا تقف قطر إلى جانب الثورة والمقاومة ماليا وإعلاميّا؟ ولاسيّما حزب الله في الجنوب في مواجهة إسرائيل، وقد كان الدعم بوجه مكشوف، واستقبل أمير قطر رسميا وشعبيا بطلا عربيًّا داعما للمقاومة في 2006، وكانت قطر شاركت في إعمار الجنوب ودعم صموده بإعادة بناء 12 ألف وحدة سكنية في الجنوب اللبناني كانت إسرائيل قد دمرتها خلال الحرب التي شنتها في يوليو/تموز عام 2006.
ب – النظام السوري، وقد كان يدرك أنّه لا منجاة له إلاّ بإدخال معطى الإرهاب إلى العادلة السوريّة، وتشير تقارير إلى عمد نظام بشار إلى إطلاق سراح أكثر من خمسة آلاف تكفيري من سجونه، وزرع عناصر مخابراتيّة فيهم. وكانت كثير من العمليات الإرهابيّة موجهة من قبل مخابراته. ولقد غدت التنظيمات التكفيرية مسرحا لتأثير أجهزة مخابرات فاعلة في العالم. وفِي بلادنا كان أنصار الشريعة الذراع المخابراتيّة والأداة التنفيذية لبعض من هذه الأجهزة في جريمتي الاغتيال بغاية الإطاحة بالمسار التأسيسي.
ج – الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكيّة وأصحاب المصالح التقليدية في المجال العربي ولاسيما في “الشرق الأوسط”: وهم يعرفون أنّ عنصر الإرهاب سيكون حاسما في تشويه الثورة وحرفها عن أهدافها الحقيقيّة.
3. الاستبدادي الوظيفي : ونعتبر أنّ نظام الاستبداد العربي كله وظيفي، التقدّمي منه والرجعي. بل إنّ الأنظمة المسماة ثوريّة خدمت الاستراتيجيا الاستعمارية أكثر من أنظمة العمالة في الأردن ومصر والسعوديّة والخليج العربي. وقد لعب النظام السوري منذ حافظ الأسد بامتياز هذا الدور. وكان له الدور الرئيسي لضرب حركة التحرر الفلسطيني في لبنان : تل الزعتر، حرب الجبل، حرب طرابلس 84 وإخراج منظمة التحرير وحركة فتح من طرابلس بعد ان أخرجتها إسرائيل من بيروت في 82. ويعرف اللبنانيون والقوى الوطنيّة جرائم نظام الأسد في ضرب المقاومة الفلسطينية واللبنانيّة (حركة التوحيد بطرابلس/ سعيد شعبان، وبدايات المقاومة بالجنوب قبل ظهور حزب الله). ثم كانت مشاركته في حرب الخليج الأولى في 91. وبعد احتلال بغداد في 2003 اختار نظام الأسد اللجوء عند المقاومة اللبنانيّة، وهو يعرف ارتباطها بإيران، ومن ثم يعرف وظيفيّتها. إنّ النظام الذي قدّم أجَلَّ الخدمات للكيان الصهيوني في لبنان لا يمكن أن يخدم مقاومة عضويّة (حتى مساندته لحماس كانت من زاوية المقاومة الوظيفيّة الموالية لإيران لأنّ جذور حماس الإخوانيّة كانت تكفي لمعاداتها) وكان حافظ الأسد يعرف أنّ لإيران استراتيجيا في المنطقة وأنّ النظام العربي انتهى، ولابدّ من البحث عن حليف وقوة داعمة ويعرف أنّ الولايات المتحدة لا يمكن أن تعطيه الأولويّة فتقدّمه على الكيان الصهيوني. وأنّ الصراع القادم مرشّح لأن يكون بين إيران والكيان الصهيوني. وهو يدرك أنّ إيران لن تعبّر عن “طموح المجال العربي في الوحدة والقوة” بقدر ما ستعبّر عن طموح فارس القومي ووسواسها الإمبراطوري.
لذلك لم يربح “حافظ الأسد القومي” ولا “حافظ الأسد النصيري”، فسوريا محتلّة من ثلاث جهات: الكيان الصهيوني وإيران وروسيا. فيصبح الحديث عن انتصارات من باب “الضحك الذي كالبكاء”، وقد يكون للموالين للاستراتيجيا الإيرانيّة بعض عزاء، بشرط أن ينسوا لوبانة “الأمّة” و”المشروع الرسالي” “وثورة المستضعفين العالميّة” فقاسم سليماني إيراني على مذهب ولاية الفقيه قبل أن يكون مسلما، وهو يدرك أنّ الذي يبرِّر قيادته لـ”جيش القدس” لفتح المفتوح ليس الإسلام وَإنّما المذهب والجغرافيا.
وأمّا الشبيحة من التيار القومي وبعض فلول اليسار وبعض دعاة التقدمية فلا عزاء لهم أمام “ثقافة اللطم” الزاحفة و”الأساطير المؤسسة لأحزان البسطاء والمستضعفين” باسم آل البيت ومظلوميتهم التاريخيّة، و”الدولة الدينيّة” باسم الثأر المذهبي، لا عزاء لهم بتواطئهم باحتلال “سورية العربيّة”.
النظام الاستبدادي الوظيفي والمقاومة الوظيفيّة والإرهاب الوظيفي لا يمكّن حتّى من الاستحضار الذهني لمدلول الانتصار. لا يكون مع التقاء هذا الثلاثي إلا نتيجة واحدة: سقوط عواصم وخراب مدن وذهاب أوطان ومقتل مئات الألاف وتشريد الملايين في العراق وسورية واليمن. فعن أيّ انتصار يتحدّثون؟!!!
جهة واحدة، في ظل هذا الخراب الشامل، يحق لأنصارها وكَتَبتِها الحديث عن انتصار هي إيران، وهو “انتصار” في مواجهة حق السوريين في تأسيس الحرية والمجال العربي في الانتظام قوّةً اقتصايّة وسياسية وازنة، “انتصار” بتدخل عسكري روسي (بموافقة صهيونية) وتواطؤ أمريكي (قتال مشترك لداعش في العراق). “انتصار” باسم دولة إيران ومصالحها التي لم تستطع أن تعدّلها في ظل ثقافة الإسلام الجامعة الموحّدة للأمّة ومعادلة أطرافها: المجال العربي، والمجال الإيراني، والمجال التركي. فارتدت إلى أشواقها الصفويّة وأحلام يزدجرد ووصيّة أردشير. وهذا من حقها، ولكن لا حقّ لها في ان تتكلّم باسم الإسلام وأن تجتهد لكي تكون بديلا عن الأمّة…
نؤمن بثورة الشعب السوري إيماننا بالمدينة السوريّة… حتى غزاتها يؤمنون بعظمتها، لذلك يخافون الحل السياسي..
دعوا ما بقي من هذا الشعب يختار بحرّيّة وستعرفون إن كانت هناك ثورة سلمية شعبية أم لا.