تدوينات تونسية

تديّن تونسيّ…

نور الدين الغيلوفي
كلّنا قد تاب يوما
ثمّ ألفى نفسه
قد تاب عمّا تاب
مظفّر النوّاب
1. لست أقصد استفزاز أحد ولا مشاكسة أيّ كان.. هذه الصفحة تحمل اسمي.. ينزل بها أصدقاء كُثْرٌ من مشارب مختلفة.. لهم عليّ أخلاق المُضِيف.. على الرحب والسعة.. نزلتم منزل الأضياف منّا.. فأهلا بكم وسهلا.. تفاعلات أصدقائي تسرّني ولكنّني أضيق بأخلاق بعض المتطفّلين المتعالمين الذين يضيقون بكلّ أمر لا يوافق أمزجتهم…
2. لست أبحث عن الأشباه ولا أراني معنيًّا بمنازلة النظائر.. تعجبني صورة سيد الشهداء حمزة وليس لي حماسَتُه في قولته الشهيرة “ردّها عليّ إن استطعت” كما صوّرها فلم الرسالة.. ولا أملك سيف عليّ لأخرج على الناس حامله كما يفعل كثير من مُحْدَثِي النعمة الثورية وقد فقدت الشجاعة ما كان لها من سَوْرَتِهَا فبات كلّ من هبّ ودبّ يرتّل سُورَتَها.. والمساجلات لا تعنيني وإن كنت أبدو في كثير من الأحيان محكوما بروح غضبية تترجمها عبارة بها أَثَرٌ من روح أبي الطيّب يراكض معوصات الشعر قسرا / فيقتلها وغيره في الطّراد.. وأنّى لي برياضته؟
3. كان لي بالعاصمة موعد مع عبد الباسط.. فركبت إليه سيارة أجرة/ تاكسي.. كان صاحب التاكسي رجلا كهلا يقف عند أول باب لشيخوخة تعجّل بحضورها شاشية وضعها على رأسه حمراء قانٍ لونُها تبهر الناظرين وتدعوهم إلى الهيبة والتوقير.. أخذت مكاني بجانبه ولزمت صمتا أدمنته مع العابرين فأنا لا أميل إلى الكلام العابر.. بعد مدّة بادرني الرجل “وحّد الله”.. فقلت “لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين”.. ولمّا كان الرجل أعدّ للسجال عُدّته فقد هجم عليّ: موش هكا تجاوبني”.. فاجأني بتعليقه على إجابتي.. قلت لعلّ حكمة تقع في هذا الطريق وإنّي لجامعها.. والحكمة ضالّة المؤمن.. أفدني، يا رعاك الله،.. قال: عليك أن تجيبني فتقول: لا إله إلّا الله سِيدْنا محمد رسول الله.. محمد هو سيدنا”.. فقلت صلّى الله عليه وسلّم.. فأردف: هاكي دعاء موش متاعنا.. يلزمنا نجاوبو هكّة.. كانت نبرة الرجل تحكي وقعا جديدا بأرض تديّن لا علم فيها.. تديّن عجِل يريد أن يستدرك به على ما ذهب من عمره قبل أن يهتديَ إلى الشاشية الحمراء.. تركته يتكلّم، فقال: يقول الله صلّى الله عليه وسلّم (هكذا).. وقتها آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه: “لا يا حاج.. لا نقول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل نقول: الله تعالى.. قال: خليني نفهّمك.. قلت: آش باش تفهّمني؟.. قال: ماهو ربّي بعث سيدنا جبريل لسيدنا محمّد.. وسيدنا محمّد جانا باللي قالو ربّي.. معناها صلّى الله عليه وسلّم.. قلت وأنا أَنْقُدُهُ أَجْرَهُ وأهمّ بمدّ رجلي للنزول من سفينة نوحه: ياحاج أنت أخطأت سهوا وكلّنا يخطئ.. وما فيها باس الواحد يصلّح غطلته موش يعاند.. فقال: إيه خويا.. الواحد يغلط… نزلت من السيارة وتركته يصحّح خطأه.. وكان درسي الأوّل…
4. صلاة الجمعة وما أدراك ما صلاة الجمعة.. سورة كاملة في القرآن الكريم تحمل اسم الجمعة بها أمر بالسعي إلى ذِكر الله “إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ”.. كانت الخطبة عن أنواع الصبر.. وكانت اللغة العربية أولى بالصبر من كلّ مُبتَلًى.. تحوّل المنبر إلى مسلخ لها.. وكنت أسمع أنينها في كلّ جملة ينطقها الخطيب.. فأجد لها موجدة تصدّني عن فهم ما يقوله.. الخطبة كلّها تفسير للماء بالماء.. خطاب دينيّ هزيل ينفّر ولا يبشّر.. يعسّر ولا ييسّر.. الخطيب كأنّه نزل لتوّه من بعض السماء.. لا شِيَةَ فيه.. يحثّ الناس على صبر لا يفهمه فكيف يُفهمه.. كانت اللحظات تمرّ ثقيلة جدّا وكان المدى يتثاءب وكان الدين يتناثر في خطاب ركيك فجّ لا جمال فيه ولا جلال…
5. انقضت الخطبة الأولى وبدأت الثانية.. قال الخطيب: إذا لم تفهموا ما جاء في الخطبة الأولى فهاكم حديثين يكفيانكم، كأنّه قد أدرك ما اقترفه من هذيان أضاع على الناس دينهم ودنياهم.. وروى قولا لم يبق فيه بالذهن شيء.. كذا الدين في هذه البلاد لا يمكث في الأرض منه شيء لأنّ الخطاب الديني لا يمت بِصِلَةٍ إلى الأرض وقد قطع أوصاله بالسماء فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.. أمر ونهي.. وزجر.. وعيد ولا وعد.. نهي عن المنكر ولا أمر بالمعروف.. وأوّل المعروف والأمر به أن يكون الخطيب ملمّا بموضوع مقالته محترِما لجمهور سامعيه.. جديرا بالخطابة.. في مستوى المنبر الذي يعلوه.. قادرا على التأثير والإقناع.. فليس أسرع إلى القلوب والعقول من دين المسلمين لو فقه المسلمون.. لأنّه دين الفطرة.. يتنفّسه الوجود بأسره وتحكيه الحياة.. “إنّ هذا الدين عميق فأوغلوا فيه برفق”.. وليس لجاهل بالدين أن ينتصب في الناس واعظا.. وإلّا عمّ الفساد والإفساد…
6. الخطاب الديني تدوير لمعجم عمره خمس عشرة قرنا.. الأعمال القولية هي نفسها والمعاني المطروقة هي عينها.. كأنّ المسلمين معصومون من التطوّر يقفون عند سطح “أفضل القرون قرني”.. ولا يحيرون حراكا.. تحدّث الخطيب عن ثلاثة أنواع الصبر: الصبر على الطاعة والصبر على المعصية والصبر على المحن.. وإلزامُك وأنت تستجيب لنداء ” فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ” بسماع مثل هذا الخطيب لمن أشدّ أنواع الصبر.. إنّه الصبر على الأذى.. وكان ذلك هو الدرس الثاني…

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock