لطفي الراجحي
جاء الكتاب خالد شوكات بعنوان “خمس سنوات عطاء من اجل الوطن” ليلخص مسيرة حركة نداء تونس من التأسيس الى دخول غمار الحكم بعد فوزها في الانتخابات بشقيها التشريعي والانتخابي وقد اثار هذا المؤلف كثيرا من ردود الافعال داخل الاوساط السياسة والاعلامية والتي استفزها بشكل صريح عنوانه لانه جاء يرسم واقعا لا يستقيم مع اداء هذا الحزب والمفارقة ان الكتاب صدر عن شخصية تنتمي الى جيل جديد من السياسيين الندائيين وهو خالد شوكات الذي وان استقر مبدئيا في هذا الحزب فان الرجل لم يترك تيارا سياسيا الا ودخله قبل ان يقيل او يطرد او ينسحب من تلقاء نفسه حتى رمت به الاقدار في نداء تونس المريض والعليل فدخله واتقن دوره وكان لابد له من عمل يحسب له ويكون بلسما لمؤسسه “مبعوث العناية الالهية”.
فهل دخل السيد شوكات غمار التعبئة الانتخابية وموقع الولاءات التحتية قبل اوانها ؟
مشهد يذكرنا بكل الكتب التي صدرت عن زين العابدين بن علي ونال اصحابها ما نالوا من الاوسمة والصكوك البنكية وهدايا ومواقع ونفوذ. فهل بعد كل الذي حدث في بلادنا لم نتغير؟ هل المشكلة في تركيبة الشخصية التي تربت خطأ على تمجيد الشخصية المسؤولة، باعتبار ان الشك والخطأ لا يمكن ان يمسها لذلك يعتقد كثيرون في كون الكتاب يرث امراضا وراثية في عودة لتكريس ثقافة تمجيد وتقديس الأحزاب والسياسيين الماسكين بالسلطة والنفوذ والتي خلنا انها ولت بلا رجعة.
الم تكن هكذا تكتب الكتب زمن بن علي فمع مطلع “السابع من نوفمبر” ابدعت الصحف التونسية قراءها بملاحق تحت نفس العنوان تقريبا: “سنوات من التغيير المبارك : الانجاز والعطاء” وهذه “الملاحق” المفرطة في التزلف لم تكن في الواقع موجهة للقراء -كما هو حال مؤلفنا هذا بشهادة صاحبه- وانما هي موجهة أساسا للقصر وللحزب وللشُعب التجمعية وظلت تتكرر في كل ذكرى للسابع من نوفمبر وذلك بهدف تضليل الراي العام -تماما- بنفس الطريقة التي تحدث بها خالد شوكات في كتابه «نداء تونس : خمس سنوات من العطاء» حيث أكد أن كتابه غير موجه للقراء ولن يوزع في الاسواق وانما سيوزع فقط على الندائيين للرفع من معنوياتهم! او كما قال “المناضل” برهان بسيس ان الذي ألف الكتاب “أراد أن يقول للندائيين من خلال الكتاب انتم حققتم ما لم يحققه أي فريق سياسي! كما ان عنوان الكتاب سياسي تحريضي للندائيين لرفع معنوياتهم بما ان معنوياتهم محبطة ومحطمة…
“خمس سنوات من العطاء من 2012 الى 2017” عنوان هذا المؤلف التوثيقي وفيه عدّد كل “الانجازات” التي حققها نداء تونس وناضل من أجل ترسيخها سماها الكاتب “عطاءات” والاعطاءات في معجم المعاني هي الهبات والمنافع فهل ينطبق مدلول هذه الكلمة على واقع الحال ؟ لكن الكاتب اراد بها جملة المبادئ والأفكار والنضالات والانجازات في رصيد هذا الحزب وعلى امتداد خمس سنوات تقريبا أي منذ لحظات التأسيس الاولى للحزب لان مثل هذه الافكار “التعبوية” لا يمكن أن تصدر من أصحاب “العقول الصغيرة” كما يسميها البعض بل هي نتاج عبقرية فذّة وخيال شاسع مؤهل للذهاب عميقا في الفراغ… هذه هي مفخرة النداء وهذا ما يعد انجازا حقيقيا كيف لا وهو الذي أنجز ما وعد.
ما هي العطاءات التي اغدق بها النداء وقدمها الحزب الحاكم لتونس وهو الذي أهدر كل وقته في معركة “الشقوق” وما علق بها من فضائح ومعارك؟… ما هي عطاءاته لهذا البلد ولناخبيه غير هذه التشوهات “العميقة” على واجهة الحزب والدولة ؟ انظروا الى التحول داخل القيادة التي لم تتردد في تبني واحتضان كبار الفاسدين واركان النظام القديم وقد تزايد عدد الانتهازيين الملتحقين بالحزب ممن هم في الواجهة ومن هم في الخفاء ؟
عن أي عطاءات تتحدثون ـ ومن حولكم كل الخيبات التي نفّرت كل من كان من حولكم…؟
فاذا سلمنا ان وجود الاحزاب يرتبط عادة بالنضال والمبادىء والصالح العام والاصلاح والتمسك بقيم الجمهورية ضمن هيكل مشترك الاهداف والغايات للاحظنا انه منذ تاسيس هذا الحزب بدات الصدوع تبرز وتتسع من خلال تكتلات المصالح واللوبيات التي تطغى فيها المصالح وتقاسم الغنائم التي غالبا ما تتحول الى تناحر. البعض فسّر الامر باشكال تنظيمي وصراع اجنحة، وهناك من فسّر الامر بالبيئة التي يعيش فيها النداء، بانتهاء فترة معارضة النهضة (الخصم السياسي الذي وحّد في السابق الجميع وكان منطلق نشوء الكيان) وبتجاوز مرحلة السعي للوصول للسلطة التي تجمع الجميع وبانقطاع الاب المؤسس، وكذلك بوصول البعض الى السلطة والمواقع وبقاء البقية على الهامش، والحقيقة ان كل ذلك حقيقي ولكن لا تعدو الا ان تكون عوامل غير مباشرة وهي التي تخفي العامل الجوهري المتمثل في غياب هوية سياسية والقدرة التنظيمية لهذا الحزب.
فالنداء اصلا فاقد لهوية سياسية تحكم قياداته غايات متناقضة وتنازع ابدي للمواقع ولا رابط بين اغلب الاطراف الا المصالح على شاكلة شركات المضاربة والاغلبية شعارها تحقيق حصانة من المحاسبة في تلاقي بين اللاهثين وراء الكراسي والاضواء وعند تفرّق المصالح وتباعدها اليوم تفرقت معا الكتلة، والذين موّلوا الكيان بالمال والحشود والدعاية الاعلامية من المرتبطين بالمنظومة النوفمبرية يرفضون اليوم بقوة التنازل والتفريط في الكيان الذي اسسوه ورعوه. فعلا لقد اصبح هذا التطاحن داخل هذا الحزب اكبر خطر خاصة وان الامر بات مكشوفا للجميع عبر اعضاء مختلفين في الحكومة ومن خارجها والتي باتت تعيش كما الرئاسة على وقع التطاحن السياسي القاتل فعن اي عطاءات يتحدث خالد شوكات ؟…
ثم هل يستطيع الكتاب حجب فضائح النداء اليوم وهي فضلا عن انها صارت منتشرة في كل القنوات والاذاعات فهي حقيقية ومباشرة والتدخلات شديدة التشويق وكل يوم يأتي بطل جديد بأسلوب جديد وتسريبات جديدة وغسيل جديد ومسرح الاحداث بات يعج بالسباب والشتائم ولا احد يستطيع توقّع القادم، حتى صارت الاحداث “هيتشوكية” بما في الكلمة من معنى.
كل شيء صار مكشوفا تقريبا وحتى ما بقي مستورا فقد اتضحت وبانت ملامحه و تكذيب على المباشر وثلب واضح واتهامات بالتنصت الهاتفي واستغلال النفوذ واخرى بالتآمر وبالانقلاب والتوريث والاستئصال وبالارهاب السياسي وحتى بالتعامل مع ارهابيين وبـوجود عصابة تخريب الاحزاب والاوطان ووجود تمويلات اجنبية.
كل هذا يحدث بين قيادات من الصف الاول لـ حزب سياسي حصد المركز الاول في التشريعية وافتك الرئاسة وهو اليوم يحكم في التنفيذية والقصف عالي الدرجة والهجوم كاسح والصراع مستمر بلا هوادة.
يتوهم شوكات إن كتابه عمل توثيقي من مناضل سياسي وقيادي مثقف في الحزب الحاكم لإبراز انجازات حزبه ووصف هذا السياسي الديمقراطي جدا من انتقده بـ”الساقطين أخلاقياً ورعاع بن علي”. و”أن مهاجميه نهجوا معه الطريقة نفسها التي نهجوها مع المصلح التونسي الراحل الطاهر الحداد حين ألف كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” ما وصفه بـ”الأمر المزري” قائلاً: “لا أستطيع أن أحترم شخصاً يهاجم كتاباً قبل أن يقرأه”. في حديث له شبّه خالد شوكات نفسه بالطاهر الحداد حين تعرض الى حملة من خصومه حول كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”.
ثم هل يمكن تاصيل ما اتاه خالد شوكات في عمله التوثيقي ضمن الكتب الفكرية ذات النزوع الاصلاحي عندما يقارن التجربتين والاثرين ؟ وأي مغالطة هذه في تشبيبه ما لا يشبه وفي تمثل ما لا يتمثل؟ بقياس قامة شوكات بقامة الحداد وبوضع «كتاب العطاءات» في مقام «امراتنا في الشريعة والمجتمع» باعتباره عملاً اجتماعياً تحريرياً يحاول أن يطوّر بعض المفاهيم الإسلامية المتعلقة بقضية المرأة رغم ان الحداد عاش آخر سنوات حياته حزيناً ولم يجاهر بعطاءاته بل ظل معزولاً من دون أن يعرف أن استقلال تونس وتحررها سيضعانه بعد ربع قرن من رحيله في طليعة المفكرين الرواد في تونس والعالم العربي فهل سيستمر خالد شوكات في “العطاء” الى هذا الوطن ما وسعته القدرة وبحجم عطاءات النداء ؟ ام سيدفعه ما اسماهم “احفاد ابن مراد” الذين ما انفكوا يتهجمون على شخصه وعلى من سواه من المصلحين ليجبروهم على مغادرة البلاد فرارا من ظلم اهلها وافتراء نخبها ؟