بشير العبيدي
#رقصة_اليراع
جلستُ قبالة بحيرة بنزرت متأمّلا، وكانت نيّتي أن أكتب شيئاً عن عيد الجمهورية التونسية الذي يصادف تاريخه هذا اليوم. لكنني عدلتُ عن الكتابة، لأنني وجدتُ أنّ قول الحقيقة في هذا الموضوع سيسبب لا محالة الإحساس بالانقباض، كما أنّ تزويق الحقائق لكي تبدو على غير صورتها سيجعل مني شاهد زور. فأقفلت هاتفي، ومضيت في طريق تونس العاصمة على متن سيارتي.
وعند مدخل الطريق السيارة الرابطة بين بنزرت وتونس، استوقفني ضابط بزيّ رسميٍّ، أفضِّلُ عدم ذكر فرقته، فظننته استوقفني لكي يتحرّى، لكنه استأذنني أن أنقله معي إلى تونس العاصمة لأنه أنهى دوامه ولم تأته بعد سيارة العمل، ورآني منفردا في سيارتي. فرحبت به، وتعارفنا وتشاركنا الطريق، فإذا بالرجل ينهال علي بأسئلة لا تنتهي، يستوضح فيها رأيي في مسائل وهموم تونس والمغرب العربي والعالم الاسلامي، وله علم بمجريات الأمور. فبينت له وجهة نظري بكل تجرد، وشرحت له بتفاصيل التفاصيل، وكان الضابط يطلب مني كل هنيهة أن أنقص من السرعة طمعا في أن يطول الوقت في هذا الحوار ويقول لي: إنه لم يسمع في حياته كلاما مقنعا مترابطا بالحجة مثل الذي سمعه اليوم !
وكان الضابط يقول لي: إنه طيلة ممارسته لوظيفته، ورغم تقلده مناصب كثيرة، لم يسجل على الطاغية السابق بن علي أنه كان يضايق أحدا أو يعذّبه، مما جعله يعتقد أنّ ما يشاع على الرئيس السابق مبالغ فيه أو مكذوب. فسمّيت له قائمة ممن استشهد تحت التعذيب، ومن النساء اللائي تعرضن للاغتصاب، وممن اختفى وممن تشرّد وتغرّب وقلت له: ها أنذا بجانبك ! لقد حرمتُ مثل ألوف غيري من العودة إلى تونس واحدا وعشرين سنة، بسبب معارضتي لذلك النظام الفاسد، أفما سمعت بألوف الناس ممن سجنوا وعذبوا وهمشوا ودمروا ومن نجوا بفضل التهجير ممن هم في مثل حالتي؟ وقلت مفحما: هل تريد أن أعطيك رقم ملفي في هيئة الحقيقة والكرامة تطلع عليه؟
لقد كان الضابط يستمع إلي بكل اهتمام وذهول كأنه لم يكن يعيش في هذه الجمهورية التي عشت فيها، وكأنه لم يسمع شيئا مما حصل في أقبية سجونها وهو الضابط، ولقد فهمت من نبرته إنّه إنما كان يتغابى لكي يعرف حقيقة موقفي وجوهر فكرتي ومصبّ رأيي، فاجتهدتُ أن تبلغه الصورة بأكمل وأعدل وأشمل شكل ممكن. فأمسك بيدي وقال: أقسم بالله أنني لم أقتنع بكلام بهذه السرعة كما اقتنعت الآن بكلامك !
ثم اقتنى كتاب خواطر الأنفاق وبشائر الآفاق ونزل، ونزلت معه مودعا بحرارة نادرة، ووعد بالتواصل في أقرب وقت بعد قراءة الكتاب !
ماذا ربحنا من ستين سنة من إعلان الجمهورية؟ أقول بكل فخر : ربحنا الحرية ! ربحنا هذا الواقع الذي تقاسمته مع الضابط في سيارتي: حوار حر صريح طليق صادق بلا مجاملات ولا كذب ولا تزوير ولا تزييف. ربحنا الحرية. حرية الفكر. ربحنا من ثورة الشعب التونسي أن يتحدث مواطن بسيط مع ضابط رفيع ولا يخشى أن يتم إرساله خلف الشمس.
ستون سنة عشناها في ظل “الجمهورية” لم نحقق فيها هذه الفرصة أبدا وحقّقتها الثورة السلمية التي يتربصون بها اليوم !
ماذا لو أن جمهورية تونس اختصرت الطريق منذ ستين سنة وفتحت المجال لكل أطيافها وأولادها وضمتهم إلى صدر الوطن الحنون؟ ماذا لو ربحنا مليارات المليارات التي صرفت على الأجهزة الأمنية والسجنية والقضائية؟ ماذا لو لم تحصد جمهورية الاستبداد الأرواح وتحرق الألواح وتسكت الأصداح وتكسر الأقداح؟ ماذا لو… ماذا لو…
لكننا في النهاية – بحمد الله – افتككنا جزءًا من الحقوق في انتظار افتكاك الحق في حوكمة بلا فساد وإعلام بلا إرهاب ونخب بلا خيانات…
المسار طويل وشاق. ولكن العزاء أننا في الوجهة الصحيحة: وجهة احترام الإنسان وحق الإنسان وحرية الإنسان. ولا خيار آخر ممكنا: لقد فشلت جميع التجارب التي قامت على تجريم الإنسان. ولقد انتصرت جميع التجارب التي قامت على تكريم الإنسان… وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا …
✍? تونس … ذو القعدة 1438 | كَلِمةٌ تَدْفَعُ ألَمًا وكَلِمةٌ تَصْنَعُ أمَلًا |