السياسة لا تموت

نور الدين الختروشي
لعلنا لم ننسى المبادرة بتشكيل لجان الاحياء في الايام التي عقبت هروب المخلوع، فعوضت تلك اللجان غياب الدولة، وقامت بحراسة المرافق العامة وحفظ الامن في أكبر تجند طوعي وتلقائي ومواطني ومسؤول عرفه تاريخنا السياسي الحديث.
ترافق التجند الوظيفي للجمهور للقيام على ادارة الشأن العام، بأهتمام شعبي مسؤول ومرح بالسياسة، فتعددت مبادرات الجمهور بهدف المشاركة العينية والمباشرة في إدارة الشأن العام، وتأسست عشرات الاحزاب ومئات الجمعيات لتعكس تطورا نوعيا في الوعي المواطني، وانقرضت او كادت المسافة بين الجمهور والنخبة.
وكانت طوابير الانتظار امام مقرات الاقتراع في انتخابات المجلس التأسيسي لوحة تاريخية أدهشت العالم، وأحالت على عمق الاحساس بالانتماء للوطن، والرغبة العامه في المشاركة في صنع المصير. ولكن مع تطور المسار السياسي في السنوات الماضية شهدنا مسار عزوف وزهد عام في الاهتمام بالسياسة والسياسيين. ولعل نسبة المشاركة الضعيفة في الانتخابات التشريعية والرئاسية الاولى بعد الثورة سنة 2014 كانت مؤشرا عما تلاها من حسم رجل الشارع في “فاعل السياسة”.
لا شك ان حدة التجاذبات في المجتمع السياسي، وخيانة الوعود الانتخابية، والفشل البارز في إدارة أغلب الملفات الحارقة والمستعجلة، والفضائح المتواترة للسياسيين سواء كانت إخلاقية او مالية ساهمت في ترذيل السياسة والسياسيين، وهو موضوع كتب فيه الكثير وقيل فيه أكثر. ما لم ينتبه له جل المحللين والمتكلمين في ظاهرة عزوف الجمهور عن السياسة وامتهانه لها وتحقيره لفاعليها، هو ما يمكن ان نسميه بالعامل التاريخي المتصل بضمور االسياسة وموتها في “الزمن الثالث” للديمقراطية.
الديمقراطية في المجال الغربي، مرت بسرعة جنونية من مرحلة الديمقراطية التمثيلية، وجوهرها احتكار المجمتع السياسي لادارة الشأن العام عبر “النائب” في البرلمان، الى مرحلة الديمقراطية التشاركية، وجوهرها الرهان على الدور الوظيفي المباشر للمجتمع المدني لا في الرقابة على الجهاز الحكومي والتنفيذي عموما، بل والمشاركة العينية والملموسة في رسم السياسات المحلية خاصة والاشراف المباشر على منابعة تنفيذها، ثم ومع ولادة “الانسان التواصلي” بتعبير هابرماز انبجس زمن ديمقراطية الرأي العام التي يتوارى فيها ويغيب الفاعل السياسي لصالح الحضور المكثف للاعلامي والقاضي كفاعلين أساسين في المجال العمومي فالاول يصنع الرأي العام والثاني يسهر على العدالة شرط النظام والاستقرار.
لا أدري ان كان من حسن حظ التونسيين او من سوءه ان أختصرت الحالة التونسية مسار انخراطها في الزمن الديمقراطي من اللحظة التمثيلية/ النيابية الى زمن ديمقراطية الرأي العام، فمعلوم ودون السقوط في الاحكام المعيارية ان نمط ديمقراطية الرأي العام كارثي على السياسة والفاعل السياسي لانها تفقد المجال السياسي مبرر وجوده وشرعيته الاساسية التي يستمدها من احتكار المعطى العام وسبل تصريفه وادارته، وتقتل فكرة الاستئمان على المصير الوطني.
لم يعد من مطامح السياسة في لحظتها ما بعد الحداثية اليوم ان تغير العالم والانسان، وأصبح منتهى طموحها أن تسير الموجود الاجتماعي والمادي بالتقنية الانجع، فالفضاء العام تغادره احلام التغيير نحو الافضل، وتسكنه مطامح التسيير نحو الانجع. فثالوث العمل والرفاهة والاستهلاك أطرد من المجال العمومي ثالوث النضال والتضحية ويوتوبيا المدينة الفاضلة.
لا أدري ان كان سان سيمون متجذرا وقاسيا في اعلانه عن نهاية السياسة في الفضاء الغربي المابعد حداثي. عندما شدد على ان الكفاءة يجب ان تعوض الحاكم.، وان المهندس سيدفن السياسي ولكن الاكيد انه كان بصدد إستعادة الحلم الافلاطوني في أن يجعل من السياسة علما.
بعيدا أو قريبا من تماس الوضعانية العليا التي نجحت بهذا القدر او ذاك في تفسيخ المعنى من مجتمع الحكم والسياسة، تتحول تونس الجديدة بصمت مشبوه الى أفق كسوف السياسة، ومن خلالها تشهد على موت المطامح الكبرى للمناضل السياسي في تغيير الحال نحو مآل تاريخي أفضل، تتحقق فيه أحلام المدينة السعيدة.
ليست السياسة في أهم معانيها المركزية والجوهرية سوى إستراتيجية غواية بعالم أفضل، تعمم فيه فرص ممارسة التحرر من اكراه الحاجة، واذا كفت السياسة عن انتاج الحلم ماتت.
ربما ضمن هذا السياق وفيه نفهم العامل التاريخي في عزوف الجمهور عن السياسة والسياسيين، وضجره الظاهر من روتين الخطاب السياسي الذي يتكرر ببهتة صفراء ذابلة، وفي مسار دائري عاجز عن فتح أمل جديد لجمهور ما عاد يهمه خطاب مجتمع الحكم، وفرازيولوجيا الادب الثوري، وانشائيات السرديات الشاملة، بقدر ما يهمه تنمية قدرته الذاتية على الانتاج والاستهلاك والرفاه الفردي.
تونس الجديدة لم يمهلها تسارع التاريخ لتستمتع بمعنى الخلاص الوطني وهي اليوم تلهث في رحلة بحثها عن “المعنى” في كهوف الخلاص الفردي…
هنا قد يكمن بعض التفسير لعزوف الجمهور عن السياسة..
جريدة الرأي العام

Exit mobile version