تأمّلات رجعيّة جدا

نضال السالمي
للأسف الشديد، أنا رجل لا أقدر على التخفّي والتصنّع والتحيّل السياسي والثقافي.. ولذلك قرّرت بشكل حاسم الإعتراف برجعيّتي على العلن.. صحيح أنّ أصابعي ترتعش خوفا وأقدامي تترنّح عجزا.. ولكن لا أرى مهربا من هذا المصير إذ فضّلت الموت رجعيّا واثقا على أن أعيش مشعوذا حداثيا.
يجب التّذكير أوّلا وبآختصار شديد أنّ الحداثة شأن علمي وفكري وسياسي متشعّب جدّا إلى درجة أنّه يبدو أحيانا مسارا تاريخيّا لا يحرّكه أحد.. ولكن قد آستقرّ الرأي عندي بعد محاولات كثيرة للإمساك بتاريخيّة هذا المسار أنّه يعود أساسا لديكارت فلسفيّا وللثورة الفرنسية سياسيّا: تبدو الحداثة مجموعة الأفكار والقيم الجديدة الّتي سعت لتحرير البشريّة من سطوة الكوسموس اليوناني ومن اللاهوت المسيحي لتُعيد مركزيّة المعنى للعقل البشري وحده: إنّ الإنسان لن يستمدّ معناه مستقبلا من المتعالي الديني أو الميتافيزيقي ولن يكون مجرّد حلقة في سلسلة التناغم الكوني أو آلة في حروب الآلهة.. بل هو يصرخ بالكوجيطو الديكارتي: العقل مقابل الوهم.. العقل ضدّ الإستبداد.. العقل ضدّ العبودية.. وهي القيم التي فتحت الباب علميّا للسيطرة على الطبيعة ثأرا من أهوالها التاريخية الكبرى منذ الطوفان الكبير الّذي أوردته الأساطير والأديان وكتب فيه هيغل نصوصا رائعة.. فالإنسان يبدأ منذ فجر الحداثة مرحلة جديدة من عكس الهجوم ضدّ مخاطر الطّبيعة وفخاخ الوهم.. لنرى للمرة الأولى تاريخا جديدا للكون مركزه الإنسان.. أو بالأحرى الذات العاقلة.
تلك هي الحداثة آختصارا.. أمّا الرجعية فيمكن تعريفها في كلمتين: وضع عصا الماضي في عجلة التقدّم.. أو مقاومة التقدّم البشري بآعتراضات ماضويّة سحيقة وغالبا غير عقلانية.
هذا كلّ ما في الأمر.. لكن حذاري فهذه المعطيات تهمّ نظام العقل الكوني.. والأوروبي بشكل خاصّ ولا علاقة إطلاقا للوضع التونسي بهذه الأمور لا علميا ولا سياسيا ولا ثقافيا.. ومنظومة الحداثة هذه قد وقع نقدها عميقا من قبل فلاسفة أوروبيين فرأى بعضهم فيها مواصلة لآستعباد الإنسان بمقولات الحداثة نفسها.. أي تعويضا للإلاه المتعالي بتألّه الإنسان نفسه.. ورأى آخرون أنّ قيمتها الحقيقية في مآلاتها إذ آنتهت الحداثة التنويريّة بالإنسان الأوروبي إلى آعتبار نفسه إلاها فمضى يستعمر الدول ويقتل البشر وينهب الثروات لأنه يرى أن الحداثي وحده جدير بالعيش الكريم وما الآخرين إلا عبيد ودوابّ وجب آستعمالهم وقودا في صقيع الشّمال الإمبريالي.
لكن يجب التذكير هاهنا أنّ كل ما سبق الكلام عنه لا يعني الوضع التونسي إطلاقا.. فالحداثة بوصفها منتوجا أوروبيا تاريخا وإرادة وروحا.. لم يصل إلى بلادنا إلا على شكل استعمار ثقافي ماكر معادي ضرورة لبنية مناخاتنا الفكرية والروحية التاريخية.. فإذا هو يفتّت مراكز هويّاتنا ويلوّث آفاقنا ببراز منتوجاته الأسوأ أخلاقيا وروحيا.. فينتهي به الأمر ليؤسس ها هنا جنوب المتوسط حالة من الشعوذة المترنّحة والزئبقيّة.
تبدأ الحداثة شمالا محاولة بشرية للتحرر من قيود الوهم.. وتنتهي جنوبا -عندنا- محاولة للتحرر من التاريخ.. وهكذا فإنّ قناعتي راسخة جدا أنّ الشعوب التي لا تشارك في بناء وصياغة المقولات والآليات والآفاق تنتهي حتما أغناما مجنونة في زريبة الوحوش المتربّصة..
وأمّا الحداثة الحقيقية في ذهني فهي أن تحفر طريقا جديدا من داخل أرضك وتاريخك.. وأمّا الشعوب التي لا تفهم هذا، فلن يكون لها الحقّ مطلقا في العيش مجددا على براري الحرية.. ولا أن يكون لها نصيبا من الكرامة.
وإذا كانت الحداثة لدى أهل الشمال أفق جديد فتحته البشرية في العلوم والفلسفة والسياسة حيث تتحوّل مركزيّة المعنى من الآلهة أو الكوسموس أو القيم المتعالية إلى هنا.. حيث العقل البشري.. حيث الإنسان سيّد مصيره ومركز العالم.. فإنّها ظلّت -هذه الحداثة- هناك ترمي بجذورها عميقا في تراب غير ترابنا ومناخات غير مناخاتنا.
يجب التّذكير بشكل واضح أنّ صدمة الحداثة آرتبطت تاريخيّا بالإستعمار الّذي قاده حداثيّون غُزاة.. فهزيمتنا أمام هؤلاء جعلتنا في آنبهار مأساوي بالمتفوّقين القادمين من الشمال: بنادقهم الرائعة.. نظامهم المتين.. قوّتهم المتوحشة.. ملابسهم الأنيقة والمتحررة.. حياتهم اللادينيّة.. إلخ: على هذه الأنقاض نشأت حداثتنا نحن بوصفها آنهزاما حضاريّا أمام حضارة الغزاة المتوحّشين.
تقول بعض الدراسات أنّ دخول الأروبيين إلى أمريكا مثلا كلّف السكّان الأصليين فقدان حياتهم الطبيعية وحرياتهم وممتلكاتهم وأكثر من ثلاثة أرباع السكّان الأصليّين قتلى بشكل لا يقلّ مأساويّة عن ضحايا داعش.. فالحداثة منذ بداياتها وإلى اليوم لا نراها قد هذّبت سلوك الإنسان العدواني والمتوحّش بل هي لم تفعل سوى أن زوّدت هذا الإنسان بقوى جديدة للهيمنة والبطش والإقناع: لقد ملّكتهُ العلوم والتّقنيات والإيديولوجيات التي وسّعت بها من دائرة الشرّ وكأنّ الأفق الذي فتحته الحداثة لم يكن في يوم ما أفق المحبة والتراحم والوعي اللّطيف بالآخر.. بل أراها قد كرّست أمرا آخر يتعلّق أساسا بالإبهار والإباحية والهيمنة.
أعني بالإبهار تقنيات الإتصال والإقناع والترويج.. وأعني بالإباحية ما آصطلح على تسميته بالحريات ذلك أنها في فهمي الخاص لم تخدم طموحات العقل بل نشرت فيوضات الغريزة.. وأعني بالهيمنة ما نعلمه جميعا من صراعات الإستقواء والإستعباد.. ولكن هذا موضوع آخر لا بدّ من جهد كبير لشرحه وليس هذا مجاله.
إنّ حداثتنا إذن هي حداثة الإستضعاف.. حداثة العبيد المقموعين والمبهورين بالبطل الحداثي الخارق.. إنّها حداثة المهزومين والمنبطحين الّذين آنهارت حضارتهم على رؤوسهم فلم يجدوا مفرّا من آتّباع الفرسان الجدد.. فرسان الحداثة الدمويّين.
يجب الإنتباه عميقا أنّ حداثتنا إذن لم تكن جهدا عقليّا ولا مساهمة في تقدّم المنتوج العالمي للتّقنيات والبرامج والأفكار.. بل توقّفت بنا عند حدود الإبصار حيث فاغرة أفواهنا أمام ملابس القوم ورقصاتهم ومشيتهم وقيمهم المعيشيّة: لقد كانت حداثة بصريّة لا علاقة لها إطلاقا بحداثة العقل تلك الّتي نشأت في تراب غير ترابنا ومناخ غير مناخنا.

Exit mobile version