الطيب الجوادي
حكايات الطيب ولد هنّية وابنة عمه نعيمة
نعيمة بنت عمي، أيتها الشقيّة، مضى العمر سريعا، وأصبحنا معا على اعتاب الشيخوخة، ولم يعد يليق بنا أن نركب الحمار أو نسبح في النهر أو نحدف العابرين بالحجر، أو ننصب الفخاخ للعصافير،
هي السنوات يا نعيمة، أعطتنا الكثير وأخذت منا الكثير
ابن عمّك الطيب التهمته المدينة المترامية
أصبح لي منزل من الآجر والإسمنت، وسيارة، وأصبحت أستعمل الفرشاة والسكين وأفطر صباحا بالقهوة والكرواسون، وأنام في فراش وثير، وأجلس في المقاهي الفخمة، وفقدت تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تحببني إليك !
فقدت هويتي يا نعيمة
فقدت الاتجاهات والعلامات
وها أنت قد أصبحت جدة ولك أحفاد رائعون
اكتشفت أخيرا أنهم جميعا يحفظون حكايات طفولتنا عن ظهر قلب، أنت رويتها لأبنائك وهم رووها لأبنائهم
يعرفون جميعا الموضع الذي كنت تختفين فيه عندما لعبنا الغميضة، وفي أي موضع من النهر كنا نسبح، وعدد المرات التي “قودتي بي لهنية مما كان يستبب لي في طرايح لا نهاية لها”
كما عرفت أنك شرحت لهم بإطناب كيفية صنع الفخاخ ونصبها، وحين يسألونك: من هو هذا الطفل الذي ملك لبّك، وملأ طفولتك بتفاصيل لا تمّحي، تقولين لهم: هو ابن عمي، ولدته أمه في بضع دقائق، ثم استقرّ بين ضلوعي للابد !
يا أنت يا نعيمة
أخلدك على الورق، وتحرصين أن تخلدينني في ذاكرة ابنائك وأحفادك
اجلسي بقربي قليلا وشاركيني كأس الشاي، واروي لي ماذا فعل بك الزمن.
كان يومها يوم السبت، يوم السوق الأسبوعي بمعتمدية القصور من ولاية الكاف، كنت أدرس اللغة العربية عند سيدي مبروك الحداد من الساعة التاسعة للعاشرة، وقبيل موعد الراحة بدقائق دخل سيدي عبد الكريم القيم العام، ليهمس بكلام لأستاذي الذي طلب مني أن أرافق القيم للعام لمكتبه، فأسقط بيديّ، وسرت الهمسات المتسائلة الحائرة المتوجّسة بين التلاميذ “واش من عملة عملها الجوادي المرة هذي”، غادرت مكاني وسرت بجانب القيم العام لا أنبس ببنت شفة، وعندما فتح باب مكتبه وجدتني وجها لوجه مع نعيمة بنت عمي وهي تمسك بصرّة وقد تكحلت ولبست بنوارها القزوردي وصباطها التالون الذي اقتنته من تاجر أحذية قديمة متجول “باش تحط بيه الحطّة في الأعراس والمناسبات”.
– لاباس نعيمة، صرخت فيها وأنا أحاول أن أمنعها من احتضاني أمام سيدي عبد الكريم، ولكنها أفلحت رغم ذلك في تطويقي بذراعيها، لتهمس لي: توحشتك، وجبتلك شوية كسرة وشامية وحلقوم، لاباس الطيب ولد عمي، وشبيك ما روحتش من المبيت عندك ثلاثة جمعات؟
سألني سيدي القيم العام “هذي أختك ؟” فأجبته نعم بإشارة من رأسي، فأغلق علينا الباب بعد أن نبهني بضرورة إنهاء اللقاء بسرعة قبل انطلاق الحصة الموالية
بادرتها متسائلا بحنق: “كيفاش جيت لليسي، وينو أبيّك، راهو يلوج عليك”
أجابتني وهي تقترب مني أكثر: في الرحبة يبيع في علوش، ونا سألت حتى عرفت وين تقرا، صمتت قليلا وهي تمسح جسدي بعينيها الحادتين، لتضيف: الطيب ولد عمي، هاك ضعفت، واش يوكلو فيكم؟ إنت توحشتني؟ والله الدنيا بلا غير بيك ظلمة !
طلبت منها أن تخفض صوتها وأن تغادر المكتب وتعود من حيث أتت قبل أن يتفطن والدها لغيابها واعدا إياها أن أعود مساء ذلك اليوم للدوار، ولكنها لم تغادر المكتب إلا بعد أن أقسمت لها أنني أنا أيضا “توحشتها برشة”.
ودعتها عند الباب وعدت إلى أترابي في الصفّ الذين راحوا يلحّون في السؤال عن هذه الفتاة التي تلبس بنوارا قزورديا وصباط تالون، وما أسرع ما اختطفوا مني الصرّة ليقتسموا الكنز الثمين الذي تحتويه وهم يتدافعون ويتصايحون دون أن يتركوا لي منها قليلا أو كثيرا.
من مخطوطة مذكراتي
#مذكرات_الطيب_الجوادي
حكايات رومانتيكية حلال

الطيب الجوادي