الرهان الإنتخابي القادم: ما فوق التنافس

عبد الحميد الجلاصي

اشهر قليلة تفصلنا عن موعد الانتخابات المحلية، ولكن الاستعدادات تبدو بطيئة او متسترة، كانما اصابها ارتخاء الصيف. وهذا غير مطمئن، فقد علمتنا التجربة أنه كلما استغرقنا لهو الصيف لا نجد شيئا نعتمد عليه لجد الشتاء.
لا نحتاج للتذكير ان كل انتخابات هي فرصة للتنافس، ومن ثم التأكيد أنه من حق الأحزاب، والمواطنين الباحثين عن فرص للمساهمة في الشأن العام، أن يضبطوا استراتيجياتهم الخاصة للفوز.
وفي المقابل كثيرا ما نغفل أنه قبل الدخول في التنافس لا بد من تهيئة ارضية التنافس ومناخات التنافس، وربما يكون من الحكمة ايضا الا تغفل حملات المتنافسين مرحلة ما بعد إعلان النتائج.
التنافس شان حزبي، ولكن الارضيّة والمناخات شان عام مشترك.
لذلك نريد لفت الانتباه للتمييز بين ما هو مشترك، فوق دائرة المنافسة، يرتقي الى مستوى المهمة الوطنية، فيحتاج إلى تعبئة شاملة لكل الموارد، وبين مجال ورهان المنافسة حيث تبرز خصوصية وبصمة المتنافسين.

اننا نرى ثلاث تحديات كبرى تواجه مسارنا الانتخابي، فتحتاج إلى تكاتف جميع الجهود لكسبها :

1. نسبة المشاركة :
يجب ان ننتبه جميعا، وخاصة الطبقة السياسية، الى عملية التهرئة المستمرة التي تصيب الجسم الانتخابي. فقد شارك اربعة ملايين ومائتي ألف ناخب في انتخابات 2011 رغم صعوبات التسجيل، ولكننا خسرنا أكثر من ستمائة الف ناخب في الانتخابات المماثلة بعد ثلاثة سنوات، بل خسرنا مليونا كاملا من الناخبين في رئاسيات 2014.
استطلاعات الرأي المتعاضدة تبرز أرقاما مفزعة لمن اتخذوا قرارهم بعدم المشاركة في الاستحقاق القادم.
بالطبع لهذه الظاهرة أسبابها، وأهمها النفور من الاحزاب السياسية، بل ومن المشاركة في الشأن العام، بسبب تواضع المنجز في الجوانب التنموية والمعيشية منذ الثورة، وبسبب تدني الخطاب السياسي، وتعفن العلاقات بين الأحزاب، وبسبب مناخات الصراع داخل اغلب الاحزاب، وبسبب عدم تقديم عرض حزبي وسياسي مغري وخاصة للشباب، يفتح أمامهم أبواب الامل والقدرة على التاثير.
ومن اسبابها ايضا عدم بذل اي جهد بيداغوجي /تواصلي يبرز الفوارق الجوهرية بين هذه الانتخابات وانتخابات المجالس البلدية تحت دستور 1959. لم نرسخ لدى الرأي العام أننا أمام ثورة، وان دورنا لن يقتصر على تجديد تركيبة مجالس بلدية ذات صلاحيات محدودة، بل إننا سنرسي سلطة جديدة، تعيد توزيع خارطة السلطة بين المركز والأطراف بما لم يسبق له مثيل في التجربة السياسية التونسية العريقة.
شرعت هيئة الانتخابات في عملية التسجيل، ولكن الأرقام الأولية، بعد مرور حوالي نصف المدة المخصصة، متواضعة.
بالطبع هذه المهمة ليست من شان الهيئة لوحدها، وهي التي تمر بظروف صعبة ما كنا نتمناها، وخاصة في هذه المرحلة بالذات.
ما زال لدينا بعض من الوقت للتدارك.
اننا امام مصلحة وطنية عليا، يتحمل مسؤوليتها، بجانب الهيئة، الأحزاب، والمجتمع المدني، والاعلام، والمثقفون، وغيرهم. ليس من مصلحة أحد أن يركن عدد من المواطنين الى السلبية واللامبالاة بسبب عدم فهم طبيعة الرهانات، او بسبب عدم ادراك اهمية الفرص الجديدة المعروضة، او بسبب رد فعل على اداء الاحزاب ومناخات الساحة السياسية.
العلاج العميق لظاهرة العزوف او المقاطعة يطال ماهية العمل السياسي، وطبيعة الاحزاب، ونوعية العلاقة بين الاحزاب والمواطنين، وهذا يحتاج وعيا ووقتا وجرأة، سيأتيها الجميع، طوعا او كرها، وستأخذ وقتها، ولكننا ندعو الآن الى هبة فيما تبقى من مدة لرفع نسبة التسجيل.

2. المناخ الانتخابي :
ومع ذلك ننبه ان النجاح في امتحان السجل الانتخابي، على فرض حصوله، لا يعني النجاح في الترفيع من نسبة المشاركة في الانتخابات، اذ ان هذه المشاركة رهينة ببرامج انتخابية تلامس الانتظارات الحقيقية للمواطنين، وبتوفر مناخ لا يلغي المنافسة ولكنه يرتقي بها.
الفارق بين الديمقراطية الحقيقية وديمقراطية الواجهات، ان الاولى تركز على المضمون والعقل والوعي، وان الثانية تركز على الانفعالات وعلى ترويج الاوهام.
بعد ثلاثة امتحانات انتخابية كبرى امتلك التونسيون ونخبتهم شيئا من الخبرة تتيح لهم التنسيب واعتماد تنافسية عقلانية يخرج فيها الجميع منتصرين وخاصة مسارنا الديمقراطي.

3. عدم مصادرة المستقبل :
ان المناخ التنافسي السليم بقدر ما يساهم في الترفيع من نسبة المشاركة يوم الانتخابات يفتح أبواب النجاح امام الهيئات المنتخبة. وقد تعلم التونسيون من تجربتهم الثرية خلال السنوات الاخيرة ان التحالفات لا تخضع فقط للتقارب الفكري او البرامجي، ولا الرغبات او الميول النفسية بل قد تكون قرارا يفرضه الجسم الناخب الباحث عن التوازن.
ومنذ بضعة عقود دعا احد القادة العظام ممن خبر تقلبات الحياة، فرقاء تصارعوا طويلا: “لا تصادروا المستقبل”.
والحكماء هم الذين يوسعون الصداقات، وهم الذين تكون لديهم النباهة فلا يغلقون أبوابا قد يحتاجونها.
هذه خلاصة بادر تونسيون بالتنظير لها والتبشير بها، وتبناها آخرون كرها فاكتشفوا مزاياها، وسيلتحق بها الجميع، لانه لا خيار لنا غيرها.

4. ختاما :
بتكرار المبادرات الناجحة نرسخ تقاليدا واعرافا وثقافة في الحياة السياسية.
وقد توافقت النخبة السياسية في امتحاني 2011 و 2014 على ميثاقين أخلاقيين يؤطران العملية الانتخابية.
وقد يكون من المفيد استصحاب هذا العادات الحسنة من خلال التوافق على ميثاق جديد يركز على جملة من المشتركات ومنها :
• بذل الجهد لتشجيع المواطنين على التسجيل في اجاله.
• الارتقاء بخطاب المنافسة الانتخابية واحترام المنافسين.
• حث المواطنين على المشاركة بكثافة يوم الاقتراع.
• الاستعداد للتعامل الإيجابي مع نتائج الانتخابات، وتوفير المناخ المناسب لعمل الهيئات المنتخبة.
ومما يشجع على مثل هذه الخطوات ان القانون الانتخابي لا يتيح لأي طرف مهما كانت قوته ان يتفرد او يتغول.
ومما يشجع ايضا الدور المتوقع للكفاءات المستقلة سواء من خلال المشاركة في قائمات حزبية او من خلال المنافسة بقائمات خاصة.
لا يزال أمامنا شيء من الوقت للاشتغال حتى تكون المحطة الانتخابية من حيث المنهج والبيداغوجيا لبنة جديدة في ترسيخ مسارنا الديمقراطي، ومن حيث المخرج ثورة تعيد توزيع السلطة لتقترب بها من المواطنين.
ان التاكيد على ضرورة الاشتغال على هذه المشتركات التي ترتقي الى مصاف المهام الوطنية، لا ينفي حق كل حزب او مجموعة مواطنين في صياغة الاستراتيجية الانتخابية التي تتماشى مع طبيعة برنامجه ومع التموقع السياسي والاجتماعي الذي اختاره.

Exit mobile version