نور الدين الختروشي
صيف تونس قيظ وحر شديد، والطقس الحار لا يشجع على الحركة والعمل بقدر ما يدفع الى الراحة والاسترخاء وارتياد الشواطئ، غير أن تونس الاحزاب والسياسة يبدو انها ستحرم هذه السنة من الاصطياف والراحة، فأمامها بعيد الصيف مباشرة موعدا انتخابيا تاريخيا لانجاز أحد اهم الاستحقاقات التي ستؤشر تاريخيا على دخول تونس زمن الجمهورية الثانية، والمقصود طبعا الاستحقاق الانتخابي البلدي والمحلي.
فالبلديات والمحليات هي اولا وقبل ان تكون حاجة عينية لادارة المرفق العام في الجهات، هي بالاصل والأساس اعلان عن موت الحكم المركزي وولادة اللامركزية وتجسيد مبدأ التمييز الايجابي الذي نص عليه الدستور.
ليس المجال لتفصيل عناصر التمايز والتفاضل بين المركزية والامركزية او بين العمودي والافقي فقد حسمت تونس الجديدة انحيازها لمبدأ اعادة توزيع السلطة أفقيا، رغم تلكأها في اسناد المبادئ الدستورية بمنظومة تشريعية تضبط مسارات تنزيل القواعد الدستورية ذات الصلة بالموضوع. ولعل النقطة السوداء في هذا السياق هو عدم تغيير مجلة الاحكام المحلية التي تنظم العمل البلدي وتحدد العلاقة بين الجهاز الحكومي المركزي والجهوي. فالمنظومة التشريعية القديمة منحازة لمبدأ المركزية وتحشر العمل البلدي في وظائف جزئية لا علاقة لها بمطلوب المشاركة العينية في التخطيط والتصرف وادارة الشأن المحلي..
لا شك ان مجلس النواب سيتدارك هذا التأخير في صياغة المجلة القانونية ذات الصلة بالمحليات رغم ضيق الوقت وعدم حماسة بعض الكتل النيابية لاولوية انجاز الاستحقاق الانتخابي البلدي.
لا ادري ان كانت هيئة الانتخابات قد فكرت في ضرورة اعداد اللوائح المنظمة للحكم المحلي والعمل البلدي عندما حددت تاريخ الانتخابات الذي لا تفصلنا عنها سوى ثلاثة اشهر، ولكن الاكيد ان الهيئة قد حددت تاريخها بمقياس الاستجابة للضرورة الوطنية الضاغطة ولم تلتفت كثيرا لمدى استعداد تونس السياسة والاحزاب لهذا الاستحقاق.
فالمفارقة هنا هو في ضعف الحماس الحزبي للذهاب لصندوق الانتخابات، وكأننا أمام خشية حزبية معممة من أرتياد هذه التجربة، لعدة أسباب تلخص بالنهاية عمق الازمة التي يعيد انتاج مفرداتها مجتمع الاحزاب الوليد بعد الثورة.
فـ “الحروب” الداخلية التي تشهدها جل الاحزاب النيابية، والانقسامية العمودية الحادة التي واكبت تلك التجارب الفتية، أضعف جاهزية الاحزاب لخوض الانتخابات البلدية، وعمق من خشيتها من عقاب الجمهور الذي غالبا ما يكون قاسيا في مثل هذه الحالة بالنظر لتعفن وفضائحية المشهد الحزبي.
يبدو حزب حركة النهضة الاكثر استعدادا والاكثر حماسا لخوض الانتخابات المحلية والبلدية، فقد اعلن عن فتح باب الترشحات للعموم في بادرة تبدو “غريبة” بمقاس من مازال يعتبر هذا الحزب تجمعا عقائديا وايديولوجيا بالاساس.
ولعل النهضة بهذه المبادرة بصدد الرد الموضوعي والعيني الملموس على المشككين في جدية التحول الذي اعلنته في مؤتمرها العاشر من الايديولوجي الى السياسي. فإن تدعو حركة النهضة عموم التونسيين للترشح على قائماتها في البلديات للحكم وادارة الشأن المحلي باسمها، يعني انها غادرت نهائيا والى غير رجعة زمن الحزب العقائدي او الرسالي الى زمن الحزبية المدنية المفتوحة على المواطنة والكفاءة، أو هكذا نفهم من هذه المبادرة التي تبدو جديدة حتى لا نقول غريبة عن تقاليد الاحزاب في اختيار مرشحيها من داخلها وتقديمها للرأي العام. فإعلان الترشيح يكون داخليا والاعلان عن المرشحين يكون خارجيا او هذا ما تعودت عليه اغلب الديمقراطيات العريقة. إلا أن النهضة اختارت عكس المسلك المتعارف عليه فأعلت الترشيحات خارجيا لتفرزها داخليا وتجيزها داخل هياكل الحزب.
لا يفهم هذا “المسلك / البدعة” إلا في سياق معاناة النهضة الدائمة لاقناع خصومها في الداخل والخارج انها ليست “أكثر” من حزب سياسي مدني ينافس ضمن قواعد النصاب الديمقراطي على الحكم.
الواضح من خلال مؤشرات خطاب الاطراف الفاعلة في الفضاء الحزبي ان جلها “غير مستعد” لإمتحان العودة لصندوق الاقتراع، والانخراط في استحقاق تدشيني جديد لم تتعود عليه النخب الجديدة، جوهره القدرة الفنية على ادارة المرفق العام وما يشترطه من قدرة على الاستشراف التخطيط والتصرف والادارة الرشيدة للموارد المحلية.
اذا أضفنا الى غياب المجلة القانونية وعدم استعداد الاحزاب لخوض الاستحقاق الانتخابي البلدي برودة رجل الشارع واستسلامه لمسلمة فساد النخب السياسية، وضعف منسوب الثقة فيها، نفهم معنى التساؤل عن جدية التونسيين في استكمال نصف ثورتهم..
فالقيمة التاريخية والدستورية للاستحقاق المحلي والبلدي يجعل منه نظريا أهم تعبير سياسي وواقعي عن منجز الثورة ذاتها، وذلك بالنظر لحجم الانتظارات من اعتماد مبدأ تفكيك السلطة المركزية والحوكمة المحلية والتشاركية، هذا في حين تبدو الاحزاب وفاعليات المجتمع المدني عاجزة عن التسويق لهذا الاستحقاق باعتباره “نصف ثورتنا” وغير قادرة على تعبئة الرأي العام لانجاح هذا الاستحقاق الناريخي.
لا شيء في هذا القيظ الصيفي يوحي بأن تونس الجديدة مستعدة لإدارة موعدا جديدا لحساب الثورة والتاريخ..
جريدة الرأي العام