مقالات
بشرى والدمية فلّة.. أو الحرب على الأنثى المختلفة
عادل بن عبد الله
تصدير: الأخطر من أولئك الذين ينخدعون هم أولئك الذين يَخدعون: “المزيفون”. ولكي يتمكنوا، على نحو أفضل، من إقناع المستمعين أو المشاهدين أو القرّاء، يلجؤون إلى حجج هم أنفسهم لا يُصدقونها. قد يؤمنون بقضية ولكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها. إنهم إذن مزيفون، يصنعون عملة ثقافية مزوّرة من أجل ضمان انتصارهم في سوق المعتقدات الراسخة.
باسكال بونيفاس، من مقدمة كتاب “المثقفون المزيفون”، “النصر الإعلامي لخبراء الكذب”
كثيرا ما أنكر “التقدميون” و”الحداثيون” صفة النضال على الإسلاميين لأنهم حسب رأيهم لم يكونوا يقاومون السلطة من أجل “مشروع وطني” تحرري جامع، بقدر ما كانوا يصارعونها من أجل مشروع “طائفي” ارتكاسي هو بالنسبة إلى النخب الحداثية أسوأ من نظام المخلوع نفسه. ولذلك وجدنا أغلب القوى “الديمقراطية” تسند الدولة أو على الأقل تخيّر عدم مواجهتها مواجهة مفتوحة (وغير محسوبة) في الملف الإسلامي لأنها لم تكن تؤمن بوجاهة الدوافع التي حرّكت الإسلاميين ضد المخلوع بن علي. كان صراع المخلوع بن علي ضد الإسلاميين (أو بالأحرى المحرقة التي أدخلهم فيها) بالنسبة “للديمقراطيين” صراعا بين رجعيتين لكنهما رجعيتان لا تُمثلان المستوى نفسه من الخطر على “النموذج المجتمعي التونسي” وأساطيره التأسيسية.
من هذا المنطلق، كانت العلاقة بين القوى الديمقراطية (المدجنة أو الرافضة للتدجين) وبين ضحايا الهولوكست النوفمبري من النهضويين تتراوح بين “التعاطف الحقوقي” وبين الصدام الصريح سواء من داخل أجهزة السلطة أو من هوامشها وملحقاتها في ما يُسمّى مجازا بـ”المجتمع المدني”. فالمجتمع المدني كان في الحقيقة مجتمعا مُسيّسا ومدجنا لخدمة استراتيجيات السلطة ولتلميع صورته في الخارج باعتباره نظاما “ديمقراطيا” يقبل بالمعارضة والحال أنه هو من يخلقها ثم “يعترف بها” بديلا عن أي معارضة حقيقية. ولم تكن المنظمات النسوية -ومنها النساء الديمقراطيات- تشذّ عن هذه القاعدة العامة. فقد كانت تشتغل ظاهريا ضد السلطة أو على هامشها ولكنها في الحقيقة كانت جزءا لا يتجزأ من القاعدة الإيديولوجية/البشرية للسلطة في صراعها ضد حركة النهضة، بل ضد كل معارضة وطنية ذات قدرة على تهديد النظام بصورة جدية.
لو نظرنا في النسق الحجاجي الذي يبرر به “الديمقراطيون” إخراج الإسلاميين من دائرة “النضال” المجتمعي فإننا سنجد أنه يقوم على فكرة التناقض الجوهري والنهائي وغير القابل للتجاوز بين “المشروع الإسلامي” وبين الأسس الفلسفية للانتظام السياسي الحديث. ولذلك كان من غير المفكر فيه عند هذه النخبة أن تعترف بإمكان انبثاق حزب “ديمقراطي إسلامي” على نمط الأحزاب الديمقراطية المسيحية، ولا يخفى على أحد ارتباط هذه المسلمة بفكرة “الاستثناء الإسلامي” ذات الجذور الاستشراقية الاستعمارية. وتُشتق من هذه الفكرة الرئيسية جملة من الأفكار الفرعية التي تُكرس التناقض الرئيس مع الإسلاميين والتناقض الثانوي مع المنظومة الدستورية-التجمعية الحاكمة قبل الثورة وبعدها.
لسنا معنيين في هذا المقال ببيان التناقض الذي يحكم دعوى “العائلة الديمقراطية” -من حيث ادعاؤها التمثيل مجتمع وهي في الحقيقة لا تمثل إلا جزءا من المجتمع-، ولا معنيين بفضح الازدواجية في تلك الدعوى -من حيث انطلاقها من منظومة حقوقية كونية وانتهاؤها إلى شرعنة “التَونسة” المشوّهة والسطحية واللاوظيفية من منظور مواطني لتلك القيم زمن بورقيبة ومن بعده بن علي-، بل كل ما يعنينا هو بيان “التواصل” والاستمرارية في مواقف النخب “الديمقراطية” من الإسلاميين، وهو تواصل نرى أنه مرتبط بارتهان تلك النخب بالزمن الاستبدادي ورفضها الاعتراف بمفاعيل الثورة بل بالثورة ذاتها، أي هو تواصل خطير لأنه يمثل عامل عطالة وترسّبا “لا وظيفيا” في أي مشروع لبناء مفهوم المواطنة وترسيخ ثقافة العيش المشترك.
في الأيام القليلة الفارطة، تداولت وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي خبر رفض طبيبة “محجّبة” تقديم الإسعافات اللازمة لطفل يبلغ 13 سنة كان يشكو من آلام في جهازه التناسلي. وقد كان وراء هذا الخبر النائبة بشرى بلحاج حميدة. وهي “مناضلة نسوية” حداثية كانت من أهم الوجوه التي استعان بها المخلوع بن علي ليلة سقوطه للتعبير عن “ثقتها فيه” وعن تصديقها لوعوده الإصلاحية. تبيّن بعد مدة قصيرة أنّ الخبر مكذوب (وله نظائر في دول أخرى عرفت صعود الإسلام السياسي كالمغرب الأقصى)، ولم يكن أمام النائبة المنشقة عن نداء تونس و”المناضلة النسوية” إلا الاعتذار… وبصرف النظر عن مذاق ذلك الاعتذار -المكتوب بالفرنسية لتصحيح “كذبة” مكتوبة بالعربية”-، فإننا نتساءل: لو نظرنا إلى مواقف النائبة من “الحجاب” منذ عهد بن علي (حيث كان يُحتكم إلى المنشور 108 سيء الذكر) فهل نستطيع أن نصدّق أنها أخطأت عندما “كذبت” أم عندما اضطرتها “الحقيقة” إلى الاعتذار؟
لنعد قليلا إلى الوراء لنفهم الأمور من منظور أوسع قد يساعدنا على فهم مواقف النائبة بلحاج حميدة وغيرها من الإسلاميين بعد الثورة. عندما فعّل المخلوع بن علي المنشور 108 الصادر عام 1981 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، والذي يعتبر الحجاب “زيًّا طائفيًّا”، وليس فريضة دينية (أو حتى حرية شخصية)، ومن ثَم حظر ارتداءه في الجامعات ومعاهد التعليم الثانوية بل حتى في الطريق العام، عندما فعّل المخلوع هذا المنشور، ماذا كان موقف نائبتنا المحترمة ومن ورائها النساء الديمقراطيات، بل أغلب النخب الحداثية التي تتحرك داخل سردية “النمط المجتمعي” والتناقض الرئيس مع الإسلاميين؟
لقد دخل المخلوع بن علي حربه الاستئصالية ضد الإسلاميين مسنودا بالعديد من “القوى الديمقراطية” ومنها الجمعيات المدنية النسوية. كانت النائبة بشرى بلحاج حميدة إحدى مؤسسات “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات” -وبالطبع هن يتعرفن ذاتيا بالتقابل مع الإسلاميات والرجعيات لا مع الاستبداديات والبرجوازيات- وقد تولت رئاستها ما بين سنتي 1994-1998. لن نتوقّف طويلا عند رمزية تاريخ التأسيس -وهو “يصادف” نهاية استعدادات الدولة للهولوكست الإسلامي عبر تكوين الملفات وتعزيز الأجهزة باستئصاليي اليسار كمحمد الشرفي وغيره-، ولن نبحث في موقف “النساء الديمقراطيات” من القمع الممنهج المسلط على الذكور من الإسلاميين، ولكننا فقط سنذكر بمواقف هذه الجمعية من الحجاب ومساندتها -بل تأليبها- للمخلوع في حربه عليه باعتباره “لباسا طائفيا” يُهدد النمط المجتمعي ومكاسب المرأة ومجلة الأحوال الشخصية.
كانت “النساء الديمقراطيات” جزءا من “الديكور” اللازم للمشهد السلطوي النوفمبري، وكان عليهن للتمتع بهامش “الحرية” و”شرف المعارضة” وامتيازات السلطة أن يكنّ جزءا من الغطاء الإيديولوجي اللازم لاستئصال الإسلاميين والإسلاميات. وقد أبدعت “النساء الديمقراطيات” في ذلك بصورة مذهلة. فهنّ لم يكتفين بمطاردة الأجساد الحية”المحجبة”، بل دخلن في حرب ضد “دمية فلة”، تلك الدمية المحجبة التي تملك “سجّادة”، والتي جاءت لتقلق راحة دميتهن المعبّرة عن قيم النمط المجتمعي التونسي”: باربي.
تعكس الحرب التي خاضها النظام السابق على الدمية فلّة بمساندة “القوى الديمقراطية” ومنها “النساء الديمقراطيات” مقدار الرعب الذي يسكن “النخب الحداثية” من أي نسق فكري أو سلوكي مختلف جذريا أو حتى جزئيا. كما تعكس تلك الحرب مركزية المسألة الثقافية في الخطاب “الحداثي” الرافض لكل مراجعة أو نقد ذاتي. كان “صراع الطواحين” الذي باركته “العائلة الديمقراطية” ضد الدمية فلّة يعكس وعيا ديمقراطيا وثقافة حقوقية مشوّهتين بصورة كبيرة، وهو ما سيكون له تأثيرات كارثية على الانتقال الديمقراطي بعد الثورة. قبل الثورة، كان التحريض على المحجبات واستهدافهن يتم بالروح “الديمقراطية” نفسها التي كانت تُجمع بها دمية فلّة من المكتبات، أما بعد الثورة، فقد كان الانتقال الديمقراطي من منظور النائبة بشرى ومن هو على مذهبها “الديمقراطي” -يتم بالروح نفسها التي سكنت اعتصام باردو وخطاباته الاستئصالية-الانقلابية.
قبل الثورة، قد يكون من المفهوم أن لا تحسّ النخبة الحداثية بأي حرج أخلاقي في حربها على الدمية فلّة (فهي وإن كانت مجرد دمية بلا روح فإنها تحمل رمزية إسلامية لا تتوافق مع مشروع “الديمقراطيين” لتنشئة الأطفال على قيم “النمط المجتمعي التونسي”)، ولكنّنا لا يمكن أن نتفهم تحت أي ظرف ارتفاع الحرج الأخلاقي وخيانة “القيم الحقوقية” عندما يتعلق الأمر بنساء حقيقيات لا ذنب لهن إلا أنهن ارتدين “الحجاب”. ونحن لا يمكن أن نفهم أداء الكثير من النخب الحداثية بعد الثورة إلا بربطه بمواقفها قبل الثورة، خاصة زمن الهولوكست الإسلامي الذي قتل العشرات وشرّد الآلاف ودمّر الحياة الطبيعية لعشرات الآلاف من التونسيين والتونسيات. ولذلك كله، كان الاستغراب من الأداء “المأزوم” للنائبة بشرى بلحاج حميدة -في حالتي الصدق والكذب والغضب والرضا- استغرابا لا معنى له، اللهم في مستوى التحليل الكلينيكي لعوارض الانفصام والتناقض والعدوانية التي تحكم العقل الديمقراطي التونسي.
إن مواقف الأستاذة بشرى بلحاج حميدة (ومن معها من حداثيات “الهامش الديمقراطي المدجن” زمن بن علي ووريثه الباجي قائد السبسي) هي في بنيتها العميقة “رفض مطلق” لانفتاح المجال العام على “المكوّن الإسلامي” باعتباره شريكا في السلطة والثروة، وشريكا في إنتاج الرموز الجماعية وليس مجرد موضوع للسلطة ولأدواتها القمعية سواء أكانت ايديولوجية أم بوليسية. إنه رفض للأنثى التي لا تشبه “المثال الحداثي” حتى عندما تكون طبيبة أو أستاذة أو محامية أو غير ذلك. بل إنه يتجاوز مستوى الرفض إلى “النفي” الرمزي الذي تحول ومازال إلى شرعنة للنفي/القتل الحقيقي. ولا شك في أنّ هذا الموقف هو أبعد ما يكون عن ادعاء “الحقوقية” و”التقدمية” و”التفهمية” وغير ذلك من المفاهيم التي يدعيها العقل السياسي التونسي “صوريا” ويعطلها “واقعيا” قبل الثورة وبعدها. وهو ما يجعلنا نطرح في خاتمة هذا المقال السؤال التالي: هل يمكن للأستاذة بشرى بلحاج حميدة -بفهمها المأزوم لمعنى “النضال النسوي” والحقوقي والسياسي- أن تكون شريكا جديا في بناء “الجمهورية الثانية” التي يمثل الإسلاميون فيها مكونا بنيويا هاما، وأن تساهم بالتالي في ترسيخ ثقافة العيش المشترك والاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس؟ إنه سؤال قد تصلح بعض النقاط الواردة في سيرة “الماضلة الحقوقية” قبل الثورة وبعدها في الإجابة عنه.
“عربي21”
تصدير: الأخطر من أولئك الذين ينخدعون هم أولئك الذين يَخدعون: “المزيفون”. ولكي يتمكنوا، على نحو أفضل، من إقناع المستمعين أو المشاهدين أو القرّاء، يلجؤون إلى حجج هم أنفسهم لا يُصدقونها. قد يؤمنون بقضية ولكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها. إنهم إذن مزيفون، يصنعون عملة ثقافية مزوّرة من أجل ضمان انتصارهم في سوق المعتقدات الراسخة.
باسكال بونيفاس، من مقدمة كتاب “المثقفون المزيفون”، “النصر الإعلامي لخبراء الكذب”
كثيرا ما أنكر “التقدميون” و”الحداثيون” صفة النضال على الإسلاميين لأنهم حسب رأيهم لم يكونوا يقاومون السلطة من أجل “مشروع وطني” تحرري جامع، بقدر ما كانوا يصارعونها من أجل مشروع “طائفي” ارتكاسي هو بالنسبة إلى النخب الحداثية أسوأ من نظام المخلوع نفسه. ولذلك وجدنا أغلب القوى “الديمقراطية” تسند الدولة أو على الأقل تخيّر عدم مواجهتها مواجهة مفتوحة (وغير محسوبة) في الملف الإسلامي لأنها لم تكن تؤمن بوجاهة الدوافع التي حرّكت الإسلاميين ضد المخلوع بن علي. كان صراع المخلوع بن علي ضد الإسلاميين (أو بالأحرى المحرقة التي أدخلهم فيها) بالنسبة “للديمقراطيين” صراعا بين رجعيتين لكنهما رجعيتان لا تُمثلان المستوى نفسه من الخطر على “النموذج المجتمعي التونسي” وأساطيره التأسيسية.
من هذا المنطلق، كانت العلاقة بين القوى الديمقراطية (المدجنة أو الرافضة للتدجين) وبين ضحايا الهولوكست النوفمبري من النهضويين تتراوح بين “التعاطف الحقوقي” وبين الصدام الصريح سواء من داخل أجهزة السلطة أو من هوامشها وملحقاتها في ما يُسمّى مجازا بـ”المجتمع المدني”. فالمجتمع المدني كان في الحقيقة مجتمعا مُسيّسا ومدجنا لخدمة استراتيجيات السلطة ولتلميع صورته في الخارج باعتباره نظاما “ديمقراطيا” يقبل بالمعارضة والحال أنه هو من يخلقها ثم “يعترف بها” بديلا عن أي معارضة حقيقية. ولم تكن المنظمات النسوية -ومنها النساء الديمقراطيات- تشذّ عن هذه القاعدة العامة. فقد كانت تشتغل ظاهريا ضد السلطة أو على هامشها ولكنها في الحقيقة كانت جزءا لا يتجزأ من القاعدة الإيديولوجية/البشرية للسلطة في صراعها ضد حركة النهضة، بل ضد كل معارضة وطنية ذات قدرة على تهديد النظام بصورة جدية.
لو نظرنا في النسق الحجاجي الذي يبرر به “الديمقراطيون” إخراج الإسلاميين من دائرة “النضال” المجتمعي فإننا سنجد أنه يقوم على فكرة التناقض الجوهري والنهائي وغير القابل للتجاوز بين “المشروع الإسلامي” وبين الأسس الفلسفية للانتظام السياسي الحديث. ولذلك كان من غير المفكر فيه عند هذه النخبة أن تعترف بإمكان انبثاق حزب “ديمقراطي إسلامي” على نمط الأحزاب الديمقراطية المسيحية، ولا يخفى على أحد ارتباط هذه المسلمة بفكرة “الاستثناء الإسلامي” ذات الجذور الاستشراقية الاستعمارية. وتُشتق من هذه الفكرة الرئيسية جملة من الأفكار الفرعية التي تُكرس التناقض الرئيس مع الإسلاميين والتناقض الثانوي مع المنظومة الدستورية-التجمعية الحاكمة قبل الثورة وبعدها.
لسنا معنيين في هذا المقال ببيان التناقض الذي يحكم دعوى “العائلة الديمقراطية” -من حيث ادعاؤها التمثيل مجتمع وهي في الحقيقة لا تمثل إلا جزءا من المجتمع-، ولا معنيين بفضح الازدواجية في تلك الدعوى -من حيث انطلاقها من منظومة حقوقية كونية وانتهاؤها إلى شرعنة “التَونسة” المشوّهة والسطحية واللاوظيفية من منظور مواطني لتلك القيم زمن بورقيبة ومن بعده بن علي-، بل كل ما يعنينا هو بيان “التواصل” والاستمرارية في مواقف النخب “الديمقراطية” من الإسلاميين، وهو تواصل نرى أنه مرتبط بارتهان تلك النخب بالزمن الاستبدادي ورفضها الاعتراف بمفاعيل الثورة بل بالثورة ذاتها، أي هو تواصل خطير لأنه يمثل عامل عطالة وترسّبا “لا وظيفيا” في أي مشروع لبناء مفهوم المواطنة وترسيخ ثقافة العيش المشترك.
في الأيام القليلة الفارطة، تداولت وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي خبر رفض طبيبة “محجّبة” تقديم الإسعافات اللازمة لطفل يبلغ 13 سنة كان يشكو من آلام في جهازه التناسلي. وقد كان وراء هذا الخبر النائبة بشرى بلحاج حميدة. وهي “مناضلة نسوية” حداثية كانت من أهم الوجوه التي استعان بها المخلوع بن علي ليلة سقوطه للتعبير عن “ثقتها فيه” وعن تصديقها لوعوده الإصلاحية. تبيّن بعد مدة قصيرة أنّ الخبر مكذوب (وله نظائر في دول أخرى عرفت صعود الإسلام السياسي كالمغرب الأقصى)، ولم يكن أمام النائبة المنشقة عن نداء تونس و”المناضلة النسوية” إلا الاعتذار… وبصرف النظر عن مذاق ذلك الاعتذار -المكتوب بالفرنسية لتصحيح “كذبة” مكتوبة بالعربية”-، فإننا نتساءل: لو نظرنا إلى مواقف النائبة من “الحجاب” منذ عهد بن علي (حيث كان يُحتكم إلى المنشور 108 سيء الذكر) فهل نستطيع أن نصدّق أنها أخطأت عندما “كذبت” أم عندما اضطرتها “الحقيقة” إلى الاعتذار؟
لنعد قليلا إلى الوراء لنفهم الأمور من منظور أوسع قد يساعدنا على فهم مواقف النائبة بلحاج حميدة وغيرها من الإسلاميين بعد الثورة. عندما فعّل المخلوع بن علي المنشور 108 الصادر عام 1981 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، والذي يعتبر الحجاب “زيًّا طائفيًّا”، وليس فريضة دينية (أو حتى حرية شخصية)، ومن ثَم حظر ارتداءه في الجامعات ومعاهد التعليم الثانوية بل حتى في الطريق العام، عندما فعّل المخلوع هذا المنشور، ماذا كان موقف نائبتنا المحترمة ومن ورائها النساء الديمقراطيات، بل أغلب النخب الحداثية التي تتحرك داخل سردية “النمط المجتمعي” والتناقض الرئيس مع الإسلاميين؟
لقد دخل المخلوع بن علي حربه الاستئصالية ضد الإسلاميين مسنودا بالعديد من “القوى الديمقراطية” ومنها الجمعيات المدنية النسوية. كانت النائبة بشرى بلحاج حميدة إحدى مؤسسات “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات” -وبالطبع هن يتعرفن ذاتيا بالتقابل مع الإسلاميات والرجعيات لا مع الاستبداديات والبرجوازيات- وقد تولت رئاستها ما بين سنتي 1994-1998. لن نتوقّف طويلا عند رمزية تاريخ التأسيس -وهو “يصادف” نهاية استعدادات الدولة للهولوكست الإسلامي عبر تكوين الملفات وتعزيز الأجهزة باستئصاليي اليسار كمحمد الشرفي وغيره-، ولن نبحث في موقف “النساء الديمقراطيات” من القمع الممنهج المسلط على الذكور من الإسلاميين، ولكننا فقط سنذكر بمواقف هذه الجمعية من الحجاب ومساندتها -بل تأليبها- للمخلوع في حربه عليه باعتباره “لباسا طائفيا” يُهدد النمط المجتمعي ومكاسب المرأة ومجلة الأحوال الشخصية.
كانت “النساء الديمقراطيات” جزءا من “الديكور” اللازم للمشهد السلطوي النوفمبري، وكان عليهن للتمتع بهامش “الحرية” و”شرف المعارضة” وامتيازات السلطة أن يكنّ جزءا من الغطاء الإيديولوجي اللازم لاستئصال الإسلاميين والإسلاميات. وقد أبدعت “النساء الديمقراطيات” في ذلك بصورة مذهلة. فهنّ لم يكتفين بمطاردة الأجساد الحية”المحجبة”، بل دخلن في حرب ضد “دمية فلة”، تلك الدمية المحجبة التي تملك “سجّادة”، والتي جاءت لتقلق راحة دميتهن المعبّرة عن قيم النمط المجتمعي التونسي”: باربي.
تعكس الحرب التي خاضها النظام السابق على الدمية فلّة بمساندة “القوى الديمقراطية” ومنها “النساء الديمقراطيات” مقدار الرعب الذي يسكن “النخب الحداثية” من أي نسق فكري أو سلوكي مختلف جذريا أو حتى جزئيا. كما تعكس تلك الحرب مركزية المسألة الثقافية في الخطاب “الحداثي” الرافض لكل مراجعة أو نقد ذاتي. كان “صراع الطواحين” الذي باركته “العائلة الديمقراطية” ضد الدمية فلّة يعكس وعيا ديمقراطيا وثقافة حقوقية مشوّهتين بصورة كبيرة، وهو ما سيكون له تأثيرات كارثية على الانتقال الديمقراطي بعد الثورة. قبل الثورة، كان التحريض على المحجبات واستهدافهن يتم بالروح “الديمقراطية” نفسها التي كانت تُجمع بها دمية فلّة من المكتبات، أما بعد الثورة، فقد كان الانتقال الديمقراطي من منظور النائبة بشرى ومن هو على مذهبها “الديمقراطي” -يتم بالروح نفسها التي سكنت اعتصام باردو وخطاباته الاستئصالية-الانقلابية.
قبل الثورة، قد يكون من المفهوم أن لا تحسّ النخبة الحداثية بأي حرج أخلاقي في حربها على الدمية فلّة (فهي وإن كانت مجرد دمية بلا روح فإنها تحمل رمزية إسلامية لا تتوافق مع مشروع “الديمقراطيين” لتنشئة الأطفال على قيم “النمط المجتمعي التونسي”)، ولكنّنا لا يمكن أن نتفهم تحت أي ظرف ارتفاع الحرج الأخلاقي وخيانة “القيم الحقوقية” عندما يتعلق الأمر بنساء حقيقيات لا ذنب لهن إلا أنهن ارتدين “الحجاب”. ونحن لا يمكن أن نفهم أداء الكثير من النخب الحداثية بعد الثورة إلا بربطه بمواقفها قبل الثورة، خاصة زمن الهولوكست الإسلامي الذي قتل العشرات وشرّد الآلاف ودمّر الحياة الطبيعية لعشرات الآلاف من التونسيين والتونسيات. ولذلك كله، كان الاستغراب من الأداء “المأزوم” للنائبة بشرى بلحاج حميدة -في حالتي الصدق والكذب والغضب والرضا- استغرابا لا معنى له، اللهم في مستوى التحليل الكلينيكي لعوارض الانفصام والتناقض والعدوانية التي تحكم العقل الديمقراطي التونسي.
إن مواقف الأستاذة بشرى بلحاج حميدة (ومن معها من حداثيات “الهامش الديمقراطي المدجن” زمن بن علي ووريثه الباجي قائد السبسي) هي في بنيتها العميقة “رفض مطلق” لانفتاح المجال العام على “المكوّن الإسلامي” باعتباره شريكا في السلطة والثروة، وشريكا في إنتاج الرموز الجماعية وليس مجرد موضوع للسلطة ولأدواتها القمعية سواء أكانت ايديولوجية أم بوليسية. إنه رفض للأنثى التي لا تشبه “المثال الحداثي” حتى عندما تكون طبيبة أو أستاذة أو محامية أو غير ذلك. بل إنه يتجاوز مستوى الرفض إلى “النفي” الرمزي الذي تحول ومازال إلى شرعنة للنفي/القتل الحقيقي. ولا شك في أنّ هذا الموقف هو أبعد ما يكون عن ادعاء “الحقوقية” و”التقدمية” و”التفهمية” وغير ذلك من المفاهيم التي يدعيها العقل السياسي التونسي “صوريا” ويعطلها “واقعيا” قبل الثورة وبعدها. وهو ما يجعلنا نطرح في خاتمة هذا المقال السؤال التالي: هل يمكن للأستاذة بشرى بلحاج حميدة -بفهمها المأزوم لمعنى “النضال النسوي” والحقوقي والسياسي- أن تكون شريكا جديا في بناء “الجمهورية الثانية” التي يمثل الإسلاميون فيها مكونا بنيويا هاما، وأن تساهم بالتالي في ترسيخ ثقافة العيش المشترك والاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس؟ إنه سؤال قد تصلح بعض النقاط الواردة في سيرة “الماضلة الحقوقية” قبل الثورة وبعدها في الإجابة عنه.
“عربي21”