كمال الشارني
(مرة أخرى من كتاب أحباب الله، ص 76):
أتذكّر وجوههم واحدا واحدا، كانوا ثلاثة: رئيس المركز في مكتبه وهو بالزيّ المدني وعونان بالزيّ النظامي، ظللت واقفا في المكتب، وقرأ الرئيس بعض ما جاء في اعترافات التلاميذ التي تدينني بالتخطيط لإضرام النار في المعهد كلّه، حاولت بسذاجة أن أنكر ذلك وأدافع عن نفسي. أتذكّر أنّي قلت له شيئا من هذا: “كلّ هذا ليس صحيحا”، وكان ذلك كافيا ليفقد السيّد رئيس مركز الشرطة صبره وعقله. ثلاث أو أربع صفعات على وجه تعوّد على الموت بكبرياء ولا مذلّة الصفع، ركلات من كل جهة حتى لم أعد أحفل من حيث تأتي. بعدها، نزعوا ملابسي عنوة، كل ملابسي وهم يصرخون “زنط يا بن…”. ربطوا يديّ ورائي بالقيد الحديدي، وساقيّ في الفلقة التي جعلني رئيس المركز أراها قبل ذلك في ركن مكتبه عندما أدخلوني إليه جرّا. بطحوني أرضا، تركوا رأسي يرتطم بمربّعات أرض الغرفة، ورفعوا ساقيّ في الفلقة، جلب رئيس مركز الشرطة سوطا قصيرا أبيض اللّون، عرفت فيما بعد أنه مصنوع من ذنب ثور معدّ خصيصا للجلد في مراكز الأمن. أصرخ بما تؤتيني حنجرتي البدوية كما لو كنت أطلب الغوث من أهلي، الألم مفرط ولا أملك القدرة على احتماله، بيد أنه يتحوّل مع تتالي الضربات إلى إيقاع ألم في الرأس. أحاول عبثا أن أتقلّب للإفلات من إيقاع الضربة الموالية على كفيْ ساقيّ المرفوعتين مثل يدي مؤمن يتوسّل بهما إلى الله، يضع أحد عوني الأمن ساقه على صدري لمنعي من المقاومة. يمنحني الألم اعتقادا بأني سوف ألاحقه إلى آخر مكان في الكون ولو كان في بطن أمه. من المؤكّد أني سوف أعتذر، قبل أيّ شيء لأمّه، أوّلا بصفتها أمّا مثل أمّهاتنا جميعا خصوصا اللاتي يبكين أمام بوّابات السجون الوطنية، ثم بصفتي أعرف جيّدا عذابات الأمومة. لكني سوف آكل من لحمه بعد ذلك، فقط لكي “أجعلك سيّدي، تقف أمامي وحيدا ذليلا مثلما أقف أمامك الآن، عريان مضروبا لم يجفّ دمك من فمك وأنفك وساقيك، مجرّدا من الحبّ ومن الدراسة التي لم يكن لك حظّ فيها، ومن مشاعر الرجولة التي كنت تتمتّع بحرماننا منها”.
كان في مقدور أيّ أحد منهم أن يكون أبا لأحد منّا أو خالا أو عمّا أو أخا شقيقا لم يجد شغلا بعد سنين البطالة غير العمل في الشرطة، كان لهم بشكل لم نقدر على فهمه أبناء، وأكباد تحنّ وزوجات وعشيقات وقصص حبّ ضائعة أيضا وقلوب ملوّعة بالحبّ، مثلنا تماما، نحن الذين كنّا نعتقد أننا على الضفّة الأفضل للأخلاق، الضفّة المناسبة أخلاقيا للأحداث وأنّنا وحدنا نملك الحقائق الكبرى مثل الحبّ والرجولة والوفاء والإبداع وكل ما يمنحه لنا إحساسنا بالضيم بأننا الأقرب والأولى بالعدالة الإلهية الكونية. إذن، أقول لنفسي، من أين يستمدّون هذه القدرة على التمتّع بعذابنا وتعذيبنا إذا كانوا مثلنا ومنّا؟.
أجيال كاملة من الشباب المثقّف تعرّضت للطرد من المعاهد والجامعات دون أيّة إجراءات قانونية بعد ثورة الخبز في جانفي 1984، فقط اعتمادا على رأي العمدة واتّفاق كبار القرية وآراء لجان اليقظة والقوّادين ومفتّشي الشرطة، للتشريد والتعذيب في السجون وفي منافي الجنوب حيث تمّ إنشاء محتشدات خاصّة للتعذيب والعمل الإجباري في قلب الصحراء. كم من الأمّهات تعذّبن وتشرّدن على أبواب السجون والمنافي في أثر الأكباد المنفية على بعد مئات الكيلومترات، كم من بيوت باتت لا تجرؤ على إضاءة النور في الغرف حزنا على ابن مسجون لا أحد يعلم إن كان سيعود حيّا أم أنه قد “هلك، يا ناري عليه، بلا أمّ عند فراشه تتوسّط له عند الله، يا ولدي إن كنتم نويتم قتله، فدعوني أراه لكي أناوله ماء الوداع، ألقّنه الشهادة وأغمض عينيه حتى لا يموت فزعا مذهولا بالعذاب فتبقى عيناه مفتوحتان، صغيري قتلتموه دون ذنب وحيدا”. تقول الأمّ بما بقي من الجهد، وهي تعضّ بما بقي من أسنانها على طرفي السفساري المتهدّل من على رأسها وتخفي شعرها الذي ابيضّ من فرط الحزن، شعرها الأشعث الذي لم يمشط من أسابيع من الأسى وهي تصرخ في الشرطة والسجّانين. “أولاد الكلب، هل أنجبتكم أمّهات من هذا البلد؟ إن كانت لكم أمّهات فاتركوني أرى ابني”.
كم من أمّ مثل صورتها باتت تحترق بنار الخوف على فلذة كبدها الذي بات مصيره مجهولا ومحفوفا بهواجس الموت، وكم من أخت صغرى فقدت الرغبة في الحياة حين رأت بعينيها عنف الذين اقتحموا، باسم الدولة والعمدة وشيوخ القوادة ولجان اليقظة بعد منتصف الليل، حرمة البيت من النوافذ والسطوح بقوّة الدولة لكي يقبضوا على شقيقها الأكبر الذي لم يبلغ من العمر بعد الثامنة عشر وانتزعوه من أمه وأهله بتهمة أنه معارض؟ هل كان الذين اتّخذوا تلك القرارات وأولئك الذين نفّذوها أشخاصا بلا أبناء لا يعرفون عاطفة الأمومة والأبوّة؟ لماذا كانوا يحاربون أمّهات الوطن؟