“الطفل الذي باع جائزته”

الخال عمار جماعي
قبل بدعة “التهنئة الفايسبوكيّة ” وصور الأطفال بجوائزهم السنيّة، ومعدّلات تفوق عقله الصّغير الموضوع بعناية إلهيّة في رأس صغير مرّكب على جسم نحيف كعود من السّدر، كان هذا الطّفل متفوّقا نبيها. وأقصى من يسمع بنباهته أمّه وأخواته.. يأتيهم كلّ أوائل صيف بجوائزه فيقبّلونه وينضجون له كسرة يأكلها وحده.. وينشغلون عنه بحصاد بيدرهم. لا يشبع هذا الطفل إلاّ عند والديه فهو “ضيف ثقيل” عند عائلة في الحاضرة حيث المدرسة يسلّمانه لها على أن يكون لتلك العائلة نصيب النّصف من القمح أو الشعير أو العدس وبعض خيرات البدو من بيض أو لبن أو دجاج.. وكان يتأذّى من سوء عشرتها وأكثر ما يؤذيه أن يُرفع الطعام ونفسه أشهى ما تكون إليه.. لهذا يجتهد في درسه ليحصد الجوائز حتّى تنضج له أمّه كسرة يأكلها وحده. 
وفي الحقيقة، لم يكن هذا الطفل عبقريّا بل كان فقط شغوفا بالمعارف الجديدة يلتهمها رأسه الصغير فلا يكاد يغفل عن كلّ لفظ ينطق به معلّمه كأنّه لا يخاطب غيره ! كان صفحة ناصعة البياض والمعلّم قلما فصيحا وكان لسانه مستقيما بما حفظ من قرآن فلم تخالطه رطانة أهل الحاضرة المليّنة للحروف.. كان يكرّ درسه كمسبحة ويعجب من تعثّر رفاقه ولا يكاد يفهم ضربهم له.. إذا خرجوا للساحة!
كان دأبه كلّ سنة أن يأخذ جائزته فيرسل له والده ثمن حملٍ من قمح يدفعه لصاحب جرّار يعود به لأهله في مَربعهم فيأكل كسرة كاملة ويقرأ كتب الجائزة ثمّ يحفظها عن ظهر قلب حتّى إذا أتمّ حفظه جعل أوراقها عفاريت ريح يربطها بخيوط ويعدو بها فيستجلب اهتمام أترابه الذين لا يسألون عن الكتب!!
كان طفلا راضيا بما هو فيه وسعيدا..!
كانت سنة سوء عندما درّسه معلّم يطيل الوقوف خارج القاعة.. يحبّ هذا الطفل أن يملأ سمعه وبصره بالدّرس لكن معلمه ذاك كان مهتمّا بـ”الشعبة الدستوريّة” التي يرأسها.. وكان يحشر إسم الزّعيم في موادّ الدراسة ويضرب به المثل ! وكان الطفل في زمنه ذاك لا يحبّ الدولة التي يراها ماثلة في المعلّم ولكنّه كان يخشاها.. فيكتم ذلك وينصرف للحصول على جائزته التي سيأكل بها كسرة كاملة.. ثمّ يجعلها عفاريت! وبرغم “الدولة” انتزع عامئذ جائزة كثيرة الكتب مغلّفة بغلاف أزرق شفّاف و الكتب المتراتبة تظهر متنوّعة.. قيل أنّها قدّمتها الشعبة الدستوريّة !
تعوّد الطفل أن يجد ثمن ركوبه عند قريب له.. فقصده وسأله: “هل أرسل أبي ثمن سفرتي ؟” تجهّم القريب وقال: “الله غالب! قال لك اصبر قليلا حتى يستلف على البيدر القادم !” انكسر خاطر الطفل.. لم يكن يريد أن يعود لعائلة السوء التي يقيم عندها بجائزته.. فقد وضع بعض أدباشه في صرّة من الصباح الباكر قبل أن يذهب ليستلم جائزته وأودعها عند صاحب الجرّار !!!
يذكر جيّدا ذلك الطفل جلسته على عتبة وليّهم الصالح في أوائل صيف ساخن وقد وضع جائزته على ركبتيه.. يفكّر في أمره!
وكأنّه إلهام من وليّهم الصالح جاءه خاطر: “ماذا لو “بعت” جائزتي.. لعلّ هناك من يشتري.. ففي النّهاية أهلي أولى من جوائزي !!”… يعلم أنّ أحد رفاقه ميسور فوالده يشتغل في فرنسا وقد رأى عنده كثيرا من المرّات فلوسا بيضاء وصفراء!.. قصده ودقّ بابه وعرض بضاعته.. فرح الصبيّ بالعرض.. وجاء بثمنها وسمعه الطفل يصيح لأبيه: “بابا، بابا.. خذيت جايزة”!!… ولم يحزن الولد فقد قبض ثمن عودته لأهله في صحراء المرابع الطاهرة…
عاد ولم يسأله أحد عن ثمن عودته فقد كانوا منشغلين ببداية الحصاد.. واضطرّ عند سؤاله عن جائزته أن يقول أنّه لم يتحصّل عليها ! فلم تقم أخته بإنضاج كسرة ليأكلها وحده !!.. وحدها أمّه انتبهت لنبرة الحزن التي أخفاها الطفل تحت سعادته بالعودة لأهله !!
حين عاد ولدها في المساء بعد شوط من اللّعب نادته أمّه داخل كوخهم وأخرجت له من منديل كسرة كاملة وقالت: “كُلها وحدك.. لعلّني أعرف ما لا يعرفون !!”
يصرخ هذا الطفل الآن بكلّ طفولته التي لم تغادره: “من يعيد لي جائزتي وله ما تبقّى من عمر الطّين الشّقيّ !”…

Exit mobile version