التعليم الخاص وتأجيل فشل لاحق

لطفي الراجحي

راهنت تونس منذ السنوات الأولى للاستقلال على التعليم العمومي لقيادة المشروع الوطني الهادف إلى تحديث المجتمع وبناء الدولة الحديثة وسمح القانون لعموم التونسيين بتعليم أبنائهم لمقاومة مختلف مظاهر التخلف والجمود. وعلى امتداد نصف قرن مثل التعليم قاطرة التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والوسيلة الوحيدة للارتقاء الاجتماعي. وقد حضرت صورة “المدرسة – المجتمع” و”مدرسة الجمهورية” التي تعلّم المواطنة قبل المعارف في متن الدستور التونسي حيث جاء في الفصل 39 منه: “إن الدولة تضمن الحق في التعليم العمومي المجاني… وتضمن جودة التعليم”.

لكن مع مرور الوقت تراكم الفشل وتتالت الخيبات وقد كانت أولى المؤشرات بارزة في تراجع أداء المدرسة العمومية في غياب أيّ أمل للتحديث ومواكبة روح العصر ومقتضيات الحداثة وبدا مستوى الناشئة في تراجع مدوي وسط نواقيس خطر لا يزال يطلقها المربون الفاعلون في الميدان وكل من له صلة بالشأن التربوي بشكل عام.

ومازالت بلادنا تراهن على التعليم للتحديث والارتقاء الاجتماعي رغم كل الهنات وقد تخلل ذلك جدل مستعر تمحور حول تدني المستوى التعليمي للناشئة فيما شددت وزارة التربية ومنذ سنوات على أنها عازمة على إجراء إصلاحات هيكلية عميقة تعيد للتعليم العمومي بريقه كي تضع حدا لنفور المدرسة وللانقطاع المبكر عنها لكنها حادت بهذا الإصلاح عن أهدافه وافرغته من مضامينه الم يتقمص ناجي جلّول الوزير الأسبق معجما إصلاحيا لا معنى له وظفه لحسابه السياسي الخاص فلم يترك إطلالة إعلامية تمضي دون الترويج لمشاريع واهية وإصلاحات مزيفة ؟ ألا يجوز التساؤل حول مضمون الخطاب الإصلاحي ومدى ارتباطه بواقع المدرسة التونسية؟ وهل أن تضخيم عدد المشاريع والمبادرات ينسجم مع إنجازات فعلية أم مجرّد أدوات دعائية لخدمة صورة الوزير وحزبه؟

لكن حقيقة التعليم العمومي التونسي انه بات منذ عقود غارقا في ازماته رغم إن تونس تمكنت من تحقيق مكاسب هامة لا يمكن إنكارها بفضل أداء نخبة فكرية وسياسية حداثية شكلت دعما لبناء مؤسسات الدولة الحديثة وبات اليوم احالة الكثير منها على شرف المهنة كابوسا فكيف السبيل لتعويضه ؟. وبات التقهقر بارزا يؤرق عموم المربين إذ لا يمكن فهم واقع التعليم العمومي التونسي الذي تراجع أداؤه إلا من خلال تشخيص علمي وإنجاز دراسة وطنية شاملة تلامس ظروف المهنة. إذ بدونها تتعمق أزمته ليطل التعليم الخاص برأسه من رحم معاناة المدرسة العمومية فقد عرفت بلادنا خلال العشرية الأخيرة على الأقل انتشارا غير مسبوق لمؤسسات التعليم الخاص.

لكن المتأمل في انتشار هذه المؤسسات التربوية الخاصة وتنوع خدماتها التي يصل بعضها حدّ تمكين التلاميذ من خدمات جذابة ومبهرة على غرار المسابح الدافئة والملاعب المجهزة والاكلات اللذيذة إضافة إلى منتوج تفاعلي بالجملة… يتساءل البعض عن وضع المدرسة العمومية ومالها وهي التي فقدت بريقها أو تكاد بعد إن توفرت جميع أسباب نجاح المشروع التعليمي الربحي وفتح فيه المجال للاستثمار الخاص المحلي والأجنبي دون قيد أو شرط بتعلة تخفيف العبء على الميزانية العمومية وانسجاما مع متطلبات العولمة واملاءات صندوق النقد الدولي في نطاق برنامجه الداعي إلى الإصلاح الهيكلي والذي بدا العمل به منذ 1986 اذ لم يكن من السهل تجاهل هذه التطورات في مجال التعليم والمعرفة.

لقد برزت المؤسسات التعليمية الخاصة في الأحياء الراقية لا سيما بتونس العاصمة والمدن الكبرى والتي لا تطأها إلا أقدام المنحدرين من المجتمع الثري وبعض نخبه الحضرية المقتدرة والتحقت بها النخب السياسية والمالية الجديدة وأصحاب المال والأعمال فأبناء الكثير منهم لم يجلسوا يوما على مقاعد تلك المدرسة القديمة المتآكلة وبجانب حيطانها الخربة وأمام سبورتها الخشبية التقليدية واستخدموا الطباشير الجبسية المتكلسة لقد جلسوا على المقاعد المرفهة واستفادوا من خبرات وضعت على ذمتهم فكانت حكرا عليهم. وهكذا تعيد المنظومة التعليمية فترسم الحدود بين الفئات الاجتماعية داخل البلد الواحد.

لقد مثل التوجّه نحو التعليم الخاص في نظر المشرع ملاذا سهلا لتخفيف الضغوطات على ميزانيّة الدولة وهروبا من مواجهة المعضلات التي اصابت المدرسة العمومية التونسية والتي لم تعد في مأمن من عصف ثقافة الخصخصة ولم يدافع عنها حتى أهلها وخاصتها ومن هم يدينون لها بالفضل كذبا ورياءا. الم يمتدح وزير التربية الأسبق المدارس الخاصة وأثنى عليها مبرزا القيمة المضافة التي يحققها التعليم الخاص؟

وتبدو الظاهرة الأكثر خطورة عندما يروج الإعلام العمومي لمثل هذه التوجهات وقد استفحلت بالمدرسة العمومية أعراض السقوط بمزمن الأمراض بعد إن راهنت عليه ولعقود خلت دولة الاستقلال وقيادتها المتنورة لتكون ملاذا وحيدا للناشئة.

إن الانتشار الكاسح للمؤسسات التعليمية الخاصة من شأنه أن يقسم المجتمع فالمنظومة التعليمية العمومية لعبت دورا بعد الاستقلال في توحيد كل التونسيين طيلة أجيال عديدة ورغم معاول الهدم التي أصابت صرحها كانت دائما حاضنة لوطن وشعب موحدين. ظاهرة لم تكن لتطفو لو لم تتوفر الارضية الرخوة لذلك إذ لم يكن بالإمكان المجازفة وفتح فضاء تعليمي خاص منذ سنة 1958 ولسنوات بعدها التزاما بالتوجهات الالزامية لمخططات التنمية.

إن تغول “ظاهرة التعليم الخاص” يؤشر على إن منظومة التعليم العمومي التي كانت مكسبا مشتركا من مكتسبات التونسيين بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية ومقدراتهم المادية تتجه نحو التفكك لتقسم القطاع إلى شطرين لا يؤشران إلا على تراجع المنظومة ككل. وبالتوازي مع التعليم الخاص الذي يحتكره الأثرياء دون سواهم من عموم المفقرين والمنحدرين نحو الفقر يكافح التعليم العمومي من أجل المحافظة على رسالته التربوية والتعليمية بعيدا عن أيّ غاية تجارية خلافا للتعليم الخاص غير أن كفاحه لم يمنعه من التحول إلى حاضنة لأبناء الفئات الوسطى والفقيرة لتتعمق أزمة القطاع وتتفاقم.

إن هذا المنعرج وقع الاستعداد له ضمن سياق عام إذ أصبح بالإمكان الاعتراف بالشهائد الممنوحة من هذه المؤسسات التي تيسر إدماجها كما تم سن قوانين في هذا المجال ميسرة للتشجيع على الاستثمار في قطاع لايزال «بكرا» وذلك في إطار «سلعنة المعرفة» عبر التشجيع عل مواكبة احدث التطورات العلمية والمعلوماتية وفتح الآفاق من اجل ترويج شهائد موازية لها قابلية النفاذ إلى سوق العمل.

غير أن هذا النوع من التعليم الذي تقع المراهنة عليه بدا مسكنا للإحباط أو هو تأجيل لفشل لاحق فالمؤسسات الخاصة لا تضمن لغالبية المنقطعين عن التعليم العمومي سوى المزيد من الفشل حينما تظهر العلل بمجرد التجاء الكثير من الأولياء إلى تمكين أبنائهم من الدروس الخصوصية الموازية لان أبنائهم يعانون من صعوبات في التعلم فضلا عن فقدانهم الحماس والدافعية. لكن الخيبة كانت مدوية بمجرد صدور نتائج الدورة الرئيسية لامتحانات الباكالوريا فقد كانت نسبة النجاح بالمعاهد الخاصة صادمة : 6.48 بالمائة فقط من مجموع المسجلين الحاضرين في جميع الاختصاصات -دورة جوان 2017- مقابل 30 بالمائة على المستوى الوطني رغم إن الجميع يعلم أن ظروف الدراسة في المؤسسات الخاصة تظل نظريا أفضل بكثير من حال المؤسسات العمومية بعد أن تركتها السلط المعنية تموت بموتها البطيء دون تدخل عاجل وجدي لإنقاذها.

إن من اوكد واجبات الدولة اليوم هو إعادة النظر في مسألة إنقاذ المدرسة العمومية لأنها (أي الدولة) الوحيدة القادرة على تأمين تعليم عمومي مجاني وتنويري خال من كل المقاصد الربحية والاستثمارية في ثروة تونس الوحيدة وهي الثروة البشرية. إن فتح المجال للمبادرات الخاصة لتأثيث المشهد التعليمي يجب أن يخضع لكراس شروط محددة وفق الأولويات فالتربية قطاع استراتيجي ومردوده يكون على المدى المتوسط والبعيد مما يجعل التربية قطاعا عموميا بالأساس ويظل خيارا ذا أولوية مطلقة من المفترض أن تؤمنه الدولة ويستفيد منه الجميع.

إن التعليم قطاع عمومي استراتيجي بالأساس وهو حق يضمنه الدستور ويحتاج إلى تعبئة الموارد الضرورية لأداء رسالة التربية ولابد أن يسترجع مكانته كأولى أولويات الاستثمار العمومي وفيما تطغى الصبغة التجارية على المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة تبدو المؤسسات التربوية والتعليمية العمومية الأكثر جدية في احترام الرسالة التعليمية والحضارية على الرغم من الظروف المهنية الصعبة.

يدرك الجميع إن التنميّة البشريّة هي جوهر التنميّة المستدامة فلا مجال لتحقيق أي تقدّم إلا بتوفر الموارد البشريّة المؤهلة والمقتدرة وذات جودة نوعية عالية وعندما افتقدنا هذه الجودة اختلت البوصلة وبدأت علامات الوهن بارزة للعيان ولعلّ هذا يقيم الدليل على فشل الخيار التنموي طالما عجزت المدرسة العمومية عن تمكين أبناءها وبناتها من المعارف والمهارات والقيم والاتجاهات والسلوكات اللازمة ليحققوا ذواتهم ويساهموا في تنميّة جهاتهم وبلادهم.

إن المتابع لشؤون التربية والتعليم في النماذج المتقدمة يكتشف أنّ نسبة التمويل العمومي لهذا القطاع مرتفعة جدّا والأرقام اكبر مفصح على ذلك ففي بلجيكا واستونيا ومالطا وفنلندا والسويد والنرويج وغيرها تتجاوز مساهمة القطاع العام في تمويل التعليم الــ 95% أما على مستوى الدول الــ27 المكوّنة للاتحاد الأوروبي فيبلغ معدّل مساهمة القطاع العام في تمويل التعليم الــ 86.2% لان هناك قناعة راسخة لدى صانعي القرار في هذه البلدان -النموذج بان القطاع العمومي يبقى الأصل الذي يرتاده أبناء الشعب الذين من حقهم الحصول على تعليم يماثل زملاؤهم في القطاع الخاص فما بالك ببلادنا التي من المفترض ان يضمن فيها الدستور مثل هذه الحقوق. لقد نجحت المدرسة العمومية في تونس عندما تأكدت قدرتها على الصمود في وجه المدارس الخاصة رغم ما لحقها من تخريب وما تواجهه من قوة المنافسة في منع تحولها لمدارس فقراء لان حالات الهجرة المعاكسة من التعليم الخاص إلى التعليم العام ظلت تتزايد (400 حالة خلال السنة الدراسية 2015-2016) وهو ما يعزز الرأي القائل بصمود المدرسة العمومية مما يحيل الرأي العام للاقتناع بأن لها نقاط قوة أساسية ذات أسس بيداغوجية فضلا عن نوعية اغلب الإطار التربوي العامل بها.

إن انقاذ المدرسة العمومية والنهوض بواقعها لا يتوقف على اعتماد إجراءات متناثرة وترقيعية لان ذلك يهدد بتعميق أزمة المدرسة العمومية. وإنما يستوجب مراجعة شاملة للمنظومة بكاملها بعيدا عن الارتجال السياسي وبالكف عن هرسلتها وتهميش القائمين عليها إضافة إلى ضرورة توفر إرادة سياسية حقيقية وقادرة على مباشرة ثورة إصلاحية تضع حدا لانهيار القطاع الذي يعدّ أحد أهم مكاسب التونسيين في رهانهم على الحداثة.

Exit mobile version