عبد الحميد الجلاصي
1. ربما يكون أكثر الناس ذكاء هم أولئك الذين يدركون اننا “لا نستحم في نفس النهر مرتين”، لأنه لا يمكننا فعل ذلك، بكل بساطة، فالنهر يجري.
لان هؤلاء يدركون أن أكثر الأشياء مخاتلة هي الأسماء، فهي ثابتة، ولكن مدلولاتها متغيرة.
فـ “الكلمات تبقى على حالها، والمبادئ لم تتغير، لكن القواعد تختلف، وكذلك الرسالة” (مارسيل غوشيه: الدين في الديموقراطية).
وها نحن نتأكد اكثر من اي وقت مضى ان تصورنا لذواتنا يتأثر بتجاربنا الحياتية، وان التبادل يثري خبراتنا، وأن “هوياتنا” لا يمكن أن تكون في غير ما علاقة بالواقع والتاريخ والسياقات، وان السرديات الكبرى كما أن لها حقيقتها الذاتية فإنما تتجدد بالتأويلات التي تفتحها رؤية العقول.
• سنكتشف ان المصير الإنساني يتقدم نحو التوحد بالرغم من تقلبات السياسة، فتحت خلافاتنا الظاهرية هناك جوهر انساني واحد، لعل احلى وأعمق التعبيرات عنه مقولة “الفطرة”.
• وسنكتشف ان هذا المصير الإنساني الواحد هو تحقيق لارادة التعارف ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (سورة الحجرات).
• وسنكتشف معنى قول “القرآن الذي يأتي يوم القيامة بكرا”، فكأنما ما تداولت عليه الأنظار ولا تناولته العقول، اذ ان العقول الذي تتناوله ليست فقط ملكة التأمل والتفكير وانما هي ايضا مخزونات معارف تتغير من جيل الى جيل، ومن سياق الى سياق.
• وسنكتشف ان التكنولوجيا ليست مجرد معطى مادي نتحكم فيه، بل لعله اليوم اكثر ما يتحكم في مصائرنا.
• وسنكتشف ان الهويات كمشاريع جماعية يمكن ان تبني جدرا بين الناس ويمكن أن تبني جسورا.
• وسنكتشف ان قمة القوة والذكاء إنما تكون بالانخراط في وجهة التاريخ.
2. في أيام الفطر المبارك تكتفي الإدارة الأمريكية بتهنئة باردة لمسلميها، وتتخلى عن تقليد اعتمده كلينتون منذ 1995، في تنظيم مواكب رسمية تكرس اهتمام أمريكا بإسلامها.
شيء مغاير يحدث في الجار الشمالي، كندا، التي لا يجب ان ننسى انها كانت ملجأ السود الفارين من سجن العبودية في ولايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ربما تتشدد كندا في شروط الدخول لأراضيها، ولكنها لما تدمج لا تقف في منتصف الطريق.
مشهد اول: السيدة القاضية التي تشرف على احتفال للإعلان على قرار إسناد الجنسية لمجموعة من الطالبين من أصول متعددة، بعد سلسلة من الإجراءات الطويلة والمعقدة، تقف خطيبة: – مرحبا بكم. كندا ترحب بكم، كما انتم. باختلافكم وتنوعكم. منذ اليوم أصبحت لنا، انا وانتم نفس الحقوق، ونفس الواجبات، لخدمة كندا، مرحبا بكم مجددا.
المشهد الثاني: إدارة البريد الكندي تصدر في ماي الماضي طابعا بريديا فيه اعتراف بعيدي المسلمين وفقا لنماذج المعمار الإسلامي.
المشهد الثالث: الأحد 24 جوان /الفاتح من شوال، الجمعية المسلمة في كندا تقيم احتفالا في إحدى قاعات العاصمة الفدرالية اوتاوا يحضره ممثلون عن الحزب الليبرالي الفدرالي وقرأوا تهنئة من رئيس الوزراء، وحضر ممثلون عن الحزب الليبرالي للمقاطعة وهنؤوا المحتفلين برسالة من رئيس وزراء المقاطعة، كما حضر رئيس بلدية المدينة وأهدى الجمعية لوحا تذكاريا بمناسبة الذكرى العشرين لتأسيسها التي توافق الذكرى المائة والخمسين لتأسيس الكونفدرالية الكندية.
لم يعد المسلمون جالية ولا ضيوفا، أصبحوا كنديين. وأصبح الإسلام أحد روافد الهوية الكندية الثرية والمتحولة. بالطبع هذا يتناقض مع الاسلام الذي تريد بعض الأفهام ان تجعل منه دينا قوميا او أن تحصره في رقعة امتداده التاريخي لا غير. بالنتيجة سيغادر المسلمون في كندا مواطن الخوف والدفاع. سيتجذرون اكثر في بلادهم، وسيجتهد الأذكياء منهم في تقديم دينهم موردا للقيم والأخلاق الاجتماعية التي تنهض بكندا. هناك بالطبع تفاعل فكري، كما هناك مصالح سياسية وانتخابية. ذلك ان الحزب الليبرالي بقيادته الجديدة الشابة اكثر تمثلا لقيم الانفتاح والتسامح من نفسه -قبل سنة- ومن بقية الأحزاب، ولكن الصحيح ايضا ان المسلمين لم يعودوا لاجئين في النسيج المجتمعي الكندي، وأنهم أصبحوا يمثلون أيضا ثقلا انتخابيا. وبالنتيجة ستصبح الهوية الكندية، بعد عقود، مغايرة للهوية الحالية بفعل التلاقح المفتوح. ولكنها هوية سائلة ومفتوحة ولن تنفك عن التفاعل. وسيُصبِح بامكاننا الحديث عن “اسلام كندي” في باقة الاسلام البديعة.