الأمين البوعزيزي
كذا كان الطفل الصغير يتلقى دعوات العجوز البصيرة التي كانت تجوب الأرياف للحصول على بعض صدقات ما بعد حصاد القمح والشعير في سبعينات القرن الماضي…
ينجح في إمتحان “السيزيام” بمعدل متميز جدا في ريف ليس به تنوير كهربائي ولا طاولات ولا كراسي ولا أولياء متمدرسين…
بعيد سنوات قليلة يجد صعوبة في إقناع والده بمواصلة الدراسة للوصول إلى الباكالوريا فابناء الجيران أغلبهم التحقوا بمدرسة الرقباء بالجيش أو أعوان شرطة بوزارة الداخلية لمساعدة أوليائهم ماديا على الإنفاق على دراسة من هم أصغر من إخوتهم…
يحصل على شهادة البكالوريا فيجد صعوبة أكبر في إقناع والده بالرغبة في الإلتحاق بالجامعة. فالكثير من أبناء الجيران “خْذوا الباك” وأصبحوا بفضلها “معلمين مترسمين من نهارهم؛ وين ماشي القدّام؟!”.
يحصل على الإجازة وتتضاعف صعوبة إقناع والده بالرغبة في مواصلة الدراسة مرحلة ثالثة… يذكر أنه طرح هذه الرغبة على والده ذات مساء لما كان يرعى شويهاته وكان برفقته أحد الجيران الذي قدم رشاوى لمعتمد الشؤون الدينية ليصبح مؤذن المسجد الوحيد بريف تسعينات القرن الماضي… لم يسلم من سخرية المؤذن التجمعي الذي سأله غامزا “وين ماشي بعد الإجازة ياخي مازال ثمة قْراية أخرى بعدها؛ وإلا تحب تولّي معتمد!!!”.
يكتفي الشاب بإبتسامة حزينة ومشفِقة في آن قائلا له: “إن خطة معتمد لا تتطلب شهادة دكتوراه بل يكفي شهادة تجمعي لتكون معتمدا”.
يواصل الشاب دراسته بكثير شقاء ويحصل على العمل الذي حلم به بعد أن أنفق عقودا من عمره…
لاحظتْ عليه أمه كثير انشغاله بالقراءة الدائمة فسألته يوما.
“ياخي مازلت تقْرى؟؟” . يجيبها: لا أنا موظف…
تعاود السؤال: “ما لا شْنية الكتب اللي نهار الكل ناقب بيها عينيك؟؟”ّ.
بجيبها مبتسما: “خدمتي قْراية كتب”..
تسأله باستغراب: “تخْلصْ عليها الخدمة هذي!!”.
يجيبها بالإيجاب… فيأتيه الجواب: “مادام ثمة فلوس أقرأ ما تبطّلشْ”.
————- تساءل أصدقاء كثيرون في هذا الفضاء عن سر تردي نتائج الباكالوريا في بلدات (ولا أقول مدن) تونس العميقة…
سادتي:
إهتم الناس بالتعليم في تلك الربوع لما كانت المدرسة سلّما للترقّي الإجتماعي…
كان ذلك الطفل الرّيفي يسمع وصايا والده الفلاح في سبعينات القرن الماضي “أقرأ على روحك ولدي باشْ ترتاحْ من الشقاء الذي يعانيه باباك (والدك).
وكان يسمع ذلك الدعاء الجميل “برّة يجعلك تلحس الغلم (القلم). يعني تنجح وتشتغل عملا بالقلم لا بالفأس والبالة (الرفش).
ساعة لم يعد التعليم مصعدا مضمونا للترقي الإجتماعي، ظهر شعار “تقرى وإلا ما تقراش المستقبل ما ثمّاش”…
ساعتها لم تعد العائلات المفقرة بتونس الأعماق تحرص عليه… وساعة لم يعد التعليم مجانيا لم تعد العائلات المفقرة بتونس الأعماق تراهن عليه… ومازال أبناؤهم يرفضون أي عمل في القطاع الخاص ويتمسكون بالعمل في الوظيفة العمومية تواصلا لتقليد التعليم مصعد إجتماعي للحصول على وظيفة عند الحاكم (لدى الدولة) تضمن حدا أدنى من الأمان الإجتماعي الذي لا يوفره قطاع خاص في قبضة الذئاب المحليين والعولميين!!!
نعم مازال التعليم مصعدا للترقي الإجتماعي لكنه لم يعد متاحا للجميع كما كان… التعليم اليوم استثمار… لذلك أفلس أهلونا مزارعو تونس الأعماق…
لأن النشاط الفلاحي أصبح اليوم استثمار يتطلب الملايين والتعليم أصبح استثمار يتطلب الملايين.. لذلك افلس المفقرون في الفلاحة ورسب اباؤهم في الدراسة!!!
برّة وليدي يجعلك تلحس الغلم
(ليس وحدهم أشقاؤنا السودانيون من يستبدلون القاف غينا عند نطق القلم وغيرها المتضمنة لحرب القاف).