محمد كريشان
«أكتب المبلغ الذي تريد على شيك مفتوح مقابل أن تغلق قناة «الجزيرة» فنرتاح جميعا من وجع الرأس هذا»… هذا ما قاله أحد الزعماء الخليجيين لأمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. المسألة لم تكن دعابة فالمسؤول القطري الذي روى لنا الحادثة، ولن أسميه، أوردها بكامل الجدية، فهذا الزعيم، الذي سماه ولن أسميه، هو الآخر، كان يعي تماما ما يقوله والدليل أن الجماعة ما زالوا يحومون حول ذات الطلب بعد كل هذه السنوات…
وفي لقاء جمع ذات مرة سفيرا أمريكيا في الدوحة برئيس مجلس إدارة «الجزيرة»، لم يخف الرجل عتابه للمحطة التي أوردت خبرا ما غير إيجابي عن بلاده في نشراتها، فلما رد عليه جليسه مستغربا بأن هذا الخبر جاء في كل وكالات الأنباء وأوردته قنوات عديدة غيرها، أجابه: صحيح… ولكن عندما تقوله «الجزيرة» الأمر مختلف….
وفي جلسة ودية خاصة جمعتني في الدوحة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، شرع «أبو مازن» في سرد قائمة طويلة من شكاويه من تغطية «الجزيرة» للشأن الفلسطيني وما خلفته من آثار. إستمعت ثم قلت: سيدي الرئيس أنتم بهذا الكلام إنما تصورون المحطة قوة عظمى قادرة على كل هذا التأثير وهذا كثير… فرد فورا: وأنتم فعلا كذلك!!
الشاهد من كل ما سبق أن هذه المحطة التلفزيونية ومنذ تأسيسها عام 1996 لم تترك أحدا على الحياد فهو إما مفتون بها أو باغض لها أو حذر منها، لكن ليس متجاهلا لها في كل الأحوال. هذا ما لم يحصل مع أي تلفزيون في العالم.. خاصة عندما يقترن موقف البعض بسعي دؤوب لا يكل لتعديل سياسته التحريرية أو إغلاقه مرة واحدة.
طبعا، شهادة أمثالي في «الجزيرة» مجروحة وغير محايدة، هذا طبيعي فمن الصعب جدا أن تأخذ المسافة الكافية مما أنت جزء منه، شخصيا كان أو مهنيا، مع أن عديدين داخلها لم يجاملوا أحدا في ما يرونه خطأ في عمل هذه المحطة التي يحسب لها أنها تتحمل شراسة بعض أبنائها أحيانا في الإعراب عن ذلك.
هذه محطة مختلفة عن غيرها ومن حقها الطبيعي والبديهي أن تبقى كذلك، طالما ارتأته لنفسها، كما هو حق كل واحد في أن يحبها أو يمقتها، هذا أيضا حقه الطبيعي و البديهي. كثيرون لا يستلطفونها بل ويكرهونها، ولكل أسبابه الوجيهة أو المتعسفة، وكثيرون غيرهم يحبونها بل يعشقونها، ولكل مبرراته المعقولة أو المزاجية، وقد تجد بين «المعسكرين» من جمع بين الإعجاب والمآخذ، في هذا الشأن أو ذاك مما تتناوله المحطة في أخبارها وبرامجها وكذلك في مذيعيها وصحافييها. المهم هنا أن بين هؤلاء جميعا وبين جهاز التلفزيون جهازا صغيرا يسمى «الريموت كنترول» فلا أحد يدفعك قسرا لمشاهدتها، ومن السخف أن يدفعك غيره قسرا لعدم مشاهدتها. لا أحد يسوق الناس كالقطيع للمتابعة ولا أحد يـُـفترض أن يكون وصيا عليهم فيمنعهم من ذلك.
في نهاية المطاف هذه مجرد قناة إخبارية، لها ما لها وعليها ما عليها، أما أن تصل الأمور إلى حد المطالبة بإغلاقها، أو في فترة من الفترات، وربما حتى الآن من يدري؟ التفكير في قصفها فهو الجنون بعينه. لن تجد أحدا في هذا العالم يمكن أن يستوعب أن دولا، بطم طميمها، يمكن أن تتحد في مواجهة….. قناة تلفزيونية!! حتى منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية المدافعة عن حرية الصحافة ستجد نفسها أمام حالة غريبة غير مسبوقة: إنها ليست دولة تريد إخماد صوت معارض داخل حدودها بل مجموعة دول تريد إخماد صوت مزعج لها في دولة أخرى! أما الأنكى فهو أن يأتي هذا من قبل دول استاء كثيرون، وخاب ظنهم، من محاباة «الجزيرة» لها طوال السنوات الماضية، على حساب ما عرفت به من قبل من جرأة في تناول قضاياهم، وما أكثرها!
لو أن أي قناة تلفزيونية، أو مشروع إعلامي آخر، ينطلق أو يغلق لأمزجة وهوى الآخرين لانقرض الكثير. هذه سوق مفتوحة و هواء طلق، من شاء فليتابع ومن شاء فلينبذ… ثم إن محاربة دول بكامل أجهزتها لقناة تلفزيونية، مهما كانت، لن يؤدي في النهاية إلا إلى عكس المراد: استصغار هذه الدول مقابل تعظيم شأن من تحاربه، لأن فيما تفعله اعتراف بتأثير ونفوذ القناة الإخبارية الأولى في العالم العربي، أحببنا أم كرهنا.
أراد فرنسي أن يفهم صديقه هول ما حدث في نيويورك في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 فقال له: تخيل أن تفتح عينيك صباحا في باريس فلا تجد «برج إيفيل»!! تخيل هنا أن يتحدث أي كان عن قطر دون ذكر قناة «الجزيرة»…
القدس العربي