رسالة من مربّ إلى شبّان تونس

فوزي الطلحاوي
“يَا أيّها الجيل الذي يبني غدا” (1)
لن أمارس ما أفتقده من وصاية عليكم، وما ينبغي لي، إن هي إلاّ بعض ممّا أرى وبعض من تجربة عمر هي عصارة ما سأحبّر : أدعوكم، دون مقدّمات إلى كسر أفق التوقّع، والمشاركة بكثافة في الانتخابات البلديّة والانخراط في مسار بناء مستقبلكم الذي هو ليس مستقبلنا. عزوفكم عن المشاركة أضرّ ضررا كبيرا بمسار بناء الجمهوريّة الثانية وعطّل برامج التنمية والتّشغيل وكاد يوقع البلاد في مزالق خطرة. أعرف أنّه قد يشقّ عليكم هذا الخطاب، وقد ترونه متعاليا، لا يلامس مشاغلكم ونفسياتكم وتطلّعاتكم، فقط، هلاّ صبرتم معي دقائق، أجّلوا ردودكم بعض الوقت أقدّر غضبكم، تمرّدكم، إحباطكم، اهتزاز صورة السياسي في أذهانكم، فالوجيعة بحجم الخيبة، خيبة انتظاراتنا وانتظاراتكم، وحتّى “كفركم” بالساسة والسياسيين…، حاولوا أن تجيبوني، عن أسئلتي وهواجسي:
• كثير منكم رفض ويرفض أن “يركب” الشيوخ على ثورة أنجزها الشباب، ولكنّ تحليلا بسيطا سيثبت أنّ عزوفكم عن المشاركة والقتال من أجل افتكاك مكان في إدارة الدّولة في مرحلة حسّاسة كان سببا رئيسا.
• لن أعود في هذه المساحة إلى الماضي، فهاجسي المستقبل، فمن سيبنيه ؟ وما هي حجارة البناء ؟
• من خلال تجربتي المتواضعة في محاورة بعضكم تعودت أن أسمع منكم فنون التذمّر والتّشكّي ولعن الظّلام، والحال أنّ القليل منكم من أشعل شمعة أو حتّى حاول إشعالها، عذركم في ذلك أنّ الأبواب موصدة في وجوهكم، وأنّكم لم توهبوا الفرص، فهاهي الانتخابات البلديّة محطة لتبرهنوا على جدارتكم بالتّسيير وبناء الآفاق والتصوّرات، إنّها تعنيك، أيّها الشّاب، مباشرة، فترشّحك وحسن اختيارك لمرشّحك وحضورك في إبداء رأيك في إطار منظّم هو ضرورة ملحّة فإن لم يكن فيه تحقيق لمطالب موطنك فتقليص من مظاهر الفساد والتراخي في أداء الواجبات والمهام.
• أيْ بْنَيْ، أيْ بُنَيَتِي، إنّ السّماء لنْ تمطر ذهبا وفضّة، وأنتم قاعدون، وإنّه ” لا يُغيِّرُ الله ما بقوم حتّى بُغيِّروا ما بأنفسهم”، أكسروا حاجز التردّد والسّلبيّة؛ أزيحوا من طريقكم عقبات تثبيط العزائم التي انتهجها المتنفّذون وأصحاب المصالح من الساسة ورجال المال وأبواق الإعلام المأجور الذي خدّركم في قضايا تافهة وشواغل ليست شواغلكم… يكفينا تحنيطا، عودوا إلى ذواتكم؛ استفيدوا من ماضيكم القريب، وتأكّدوا أنّ الطبيعة تأبى الفراغ، وأنّ الفراغ الذي تركه شابّ متفتّح واع متعلّم مثلك قد ملأه من ليس أهلا له، وملأه شباب الفراغ.
أيْ بُنَيً، لقد شوّه كثيرون، بوعي أو دون وعي، صورة الشّاب، وقالوا فيها ما لم يقله مالك في الخمرة، إنّهم يحاكمون هيئاتكم وينتقدون اهتماماتكم، فلا تكترثوا لذلك كثيرا، فكما لكلّ سنّ قراءتها لكلّ جيل مشاغله ولباسه وثقافته، فأنتم خلقتم لزمان غير زماننا، وما وفّره لكم التطوّر التكنولوجي يمكن أن يساعدكم في بناء تصوّر لأيّ حياة تريدون، ارفضوا الوصاية عليكم رفضا بنّاء أثبتوا من خلاله جدارتكم بتقرير مصيركم وبأهليتكم لتلك الأمانة التي ستناط بعهدتكم.
أي بُنَيً، شواهد التّاريخ كثيرة، وأكثركم تعرّض لها في دروس المعهد والجامعة، ولعلّكم بحاجة إلى أن تستحضروا أنّ أكبر أحداث التاريخ وأخطرها كان مهندسوها والمسهمون فيها شبابا، وقد أذكرك بسنّ حنبعل وهو يخوض أعتى حروبه، وبقادة الفتح الإسلامي، وبسنّ ألسكندر المقدوني وهو يقود أعتى جيوشه وبعمر نابليون بونابرت وهو يضع يده على مصر، وبسنّ أبي القاسم السّابيّ وهو يعزف نشيده الجبّار، وبسنّ صلاح الدّين الأيّوبيّ وهو يستعدّ لأضخم رسالة ألا وهي فتح بيت المقدس التي تستغيثنا اليوم ولا مغيث، وبسنّ الإمام البخاريّ وهو يتصدّي لجمع الحديث الشّريف، المجال لا يسمح بالإسهاب في العرض لأنّنا في مقام التّذكير، وبضغطة على قوقل يمكنك التعرّف على آلاف النماذج الشّبابيّة الناجحة.
أي بنيَّ، لقد علّمتنا التجارب أنّه “ما يندبلك كان ظفرك وما يبكيلك كان شفرك” وأنّه، “كما تكونون يُولّى عليكم”، وأنّنا ما أفنينا عمرا في تربيتكم وتعليمكم إلا لندّخركم لهذه الحرب الضّروس على الجهل والتخلّف والإحباط والاستعمار والإرهاب وأوّله الإرهاب الفكري ولافتكاك الحريّة والاختيار واللّذين بهما يمكن أن ينال من ينال الثّواب وينال من ينال العقاب.
أيْ بُنَيَ، لعلّها الفرصة الأخيرة التي ستتاح لكم لتغيّروا واقعكم أو لتنخرطوا في مسيرة تغييره، فلا تتأخّروا ولا تستعجلوا النّتائج، “ولَا تَهِنُوا ولَا تَحْزَنُوا وأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”، ارفضوا الإخباط، ولا تستهينوا بالفعل فالمائة ميل تبدأ بخطوة، تخيّروا قدواتكم، حاربوا ظلام الجهل بنور المعرفة وسلبيّة الجمود ببركات الحركة… أيّها الشّباب لا مستقبل لكم إلاّ على هذه الأرض، عليها ما يستحقّ الحياة، والحياة حياتكم، فحاولوا أن تسهموا في بناء بلادكم ودعم أمنها واستقرارها وجعل تونس بلدا يحلو فيه العيش. ولا تنسوا أن تكونوا معنا ولا تكونوا علينا. وأختم أبيات لأحمد شوقي :
يا أيّها الجيلُ الذي يبني غدا *** كّنْ في بنائِك حازمًا مِقدامَا
واجعلْ أداتَك في البناءِ محبّةً *** وتعاوُنًا وتآلُفًا ووِئِامَا
وإذا بَنَيْتَ المُلْك فابْنِ حقيقةً *** لا تبنِ أحلامًا ولا وهامَا
والسلام

Exit mobile version